مقال د. ميشال الشمّاعي
المرحلة التي نعيشها اليوم على دقّتها تتطلّب منّا المواجهة على حدّ قول غبطة البطريرك الراعي مار بشارة بطرس الراعي في قدّاس شهداء تفجير مرفأ بيروت العام الماضي، “المواجهة هي السبيل الوحيد للتخلّص من الموت المحتّم من أجل الحياة والمصير الأفضل”. فهذه المرحلة بالذات تتطلّب منّا مقاومة من نوع آخر، لكن لكلّ مقاومة مقوّمات للصمود. ولا يمكن لأيّ إنسان أن يستمرّ في مقاومته في حال فقد مقوّمات صموده.
والبحث في هذا الموضوع يجب أن يتعدّى الجانب الوجداني والإنفعالي إلى ما هو عمليّ عملانيّ بشكل يُصرَفُ على أرض الواقع. فالمشروعان المتواجهان اليوم في لبنان هما نقيضان: مشروع الدويلة ومشروع الدّولة.
نجح مشروع الدويلة الذي تمثّله منظمة حزب الله وحليفها الطروادي الذي وقّع معها تفاهم التسليم في 6 شباط 2006 وكلّ الذين يدّعونه الممانعة، ويشنّون الحروب الافتراضية على العدوّ الإسرائيلي عبر مواقع التواصل الاجتماعي؛ فيما هم يفاوضونه على الحصص النفطيّة من تحت الطاولة، ويطبّعون فوق الطاولة في المفاوضات الأميركيّة ـ الإيرانيّة.
وما نجح به مشروع الدّولية هو عمليّة تفريغ ممنهجة للدّولة من مقوّمات صمودها كلّها. فأدخلها، عبر سياساته الانعزالية وقتاله للشعوب العربيّة في عقر أوطانها كسوريا والعراق واليمن، في عزلة مع العالم العربي. وبتموضعه الإقليمي مع وليّه الفقيه في إيران بات لبنان في عزلة دوليّة مكتملة الأوصاف. وهذا ما ضرب لبنان مصرفيًّا واقتصاديًّا بعدما نجح بتحويله منصّة لتصدير الكابتغون والإرهاب إلى العالم أجمع من إيطاليا إلى الأرجنتين ففنزويلا واليونان والسعوديّة وغيرها من دول العالم.
أمّا في المجال التربوي فنجح أيضًا هذا المحور بتأسيس نظام تربويّ خاصّ به يعدّ عبره الأطفال للموت بحجّة الجهاد الديني. فضرب مفهوم الحياة والفرح في عقل الطفولة البريئة. وفي المجال السياحي صارت السياحة عنده محصورة فقط بالسياحة الجهاديّة دون سواها.
وفي ما يتعلّق بالمحور الثاني، أي الدولة، فهو فقد مقوّمات وجوده بالكامل. من الاقتصاد إلى النقد والسياحة والتربية وغيرها من القطاعات التي تجعل من أيّ بلد دولة محترمة يرغب الآخرين العيش في كنفها وليس مَن يحملون جنسيّتها فقط. أمام هذا الواقع لم يعد عند أيّ لبنانيّ يفاخر ويجاهر بلبنانيّته شيئًا ليخسره. من هنا، باتت مواجهة مشروع الدويلة أمرًا حتميًّا. ولا يمكن لأيّ لبنانيّ أن يواجه إن لم تتوفّر له مقوّمات الصمود.
لذلك، المطلوب أوّلاً العمل على قاعدة شدّ العصب الوطني لتأمين العنصر الأوّل من عناصر المواجهة. وهذا ما يعمل عليه الإعلامان الأصفر والبرتقالي عبر زرع اليأس في المجتمع اللبناني الذي لا يزال يملك الحدّ الأدنى من الإيمان بضرورة وجود الدّولة. حتّى صار بعض ضعفاء النّفوس من الذين يجاهرون اليوم بذمّيّتهم يفاخرون بانبطاحهم تحت أقدام منظّمة حزب الله، ويمجّدون هذه المنظّمة غير الشرعيّة متى منّت عليهم بأيّ مركز أو منصب في الدّولة المهدّمة على أيديهم. فبمساهمة هؤلاء بتغذية تنين الفساد أوصلوا منظمة حزب الله، وهم يدرون بذلك، إلى ما لم تستطع تحقيقه بالحديد والنار لسنين خلت.
ثانيًا، لا يمكن الاكتفاء فقط بالإيمان وحده بل يجب العمل على تمتين الأواصر بين لبنان المقيم ولبنان المنتشر، لما يستطيع الانتشار أن يمدّ اللبنانيّين الصامدين في أرضهم ووطنهم.
ثالثًا، يجب الالتفاف حول الكنيسة والمؤسّسات التي تديرها، لا لاستغلال المساعدات التي تحصل عليها من دول الانتشار، بل لتقديم مشاريع تساهم في الصمود، كالاستثمارات التي تؤمّن فرص عمل لكلّ الذين قرّروا فعل الصمود هذا.
رابعًا، لا يمكن أن نسمح لأحد بأن يأخذ لبنان إلى مشاريع أيديولوجيّة لا تشبه الكيانيّة اللبنانيّة بشيء، ولا تمتّ بصلة تاريخيّة إلى جذورنا وإرثنا في الشهادة للحريّة والإنسان والرّبّ في هذه الأرض.
والأهمّ من ذلك كلّه، يجب أن نصمد لأنّنا نملك فرصة تكمن في ترجمة الثورة الانتخابية التي صنعها النّاس في صناديق الاقتراع في 15 أيّار 2022، عبر إيصال رئيس جمهوريّة يحمل صوت النّاس، ويترجم خياراتهم ومطالباتهم أفعالاً في المؤسّسات الدّستوريّة. وما يجب إدراكه أيضًا أنّ الثلث المعطّل الذي كرّسه مشروع الدّويلة في الدّوحة العام 2008 لم يعد حكرًا عليه وحده. لذلك، المسؤوليّة الكبرى إن فشل مشروع الدّولة هي على كاهل مَن رفض ولا يزال حتّى هذه الساعة السير في مشروع الدّولة عبر الخطّ السيادي.
نصمد اليوم وكلّ يوم ولو باللحم الحيّ لأن لا سبيل لنا سوى المواجهة ليبقى لبنان التاريخ والدّور والرّسالة. وحذارِ اليأس والرحيل أو الاستسلام والهروب. فمن ييأس يموت مئة موتة في اليوم، ومَن يهرب يعيش عمره كلّه غريبًا لو عاش في أغلى القصور، ويموت وحيدًا محترقًا بشوق العودة إلى الوطن.