بقلم ابراهيم بيرم
لم تمر خاتمة الاحتفالات التي نظمها “#حزب الله” على مدى نحو شهر إحياء لذكرى انطلاقته الميدانية بسلام وهدوء على رغم حرصه على جعلها “مهيبة”، اذ أثار اختيار الحزب لوادي #جنتا البقاعية وتحويلها معلما “ومزارا سياحيا – جهاديا” رمزيا على غرار معلم مليتا في جبل الريحان في الجنوب نوعا من الامتعاض والاعتراض عند شريك الحزب في الثنائية الشيعية، أي حركة “امل”.
وخلال الايام القليلة الماضية بُذلت جهود استثنائية من جانب الحزب لغايتين: الاولى إبقاء القضية في أضيق الدوائر وبعيدا من الاضواء للحد من تفاعلاتها، والثانية امتصاص موجة الامتعاض واستيعاب ارتداداتها ومفاعيلها.
ومع كل تلك الجهود فان الاعتراض والامتعاض الحركي كان مقدَّرا لهما ان يخرجا الى العلن في بعض وسائل التواصل الاجتماعي وفي عدد من المحافل السياسية الشيعية وغير الشيعية. وزاد في حراجة الموقف ان الامر استحال سجالا داخل دوائر الحركة من جراء أمرين: الاول ان ثمة بوادر نقاش مكتوم داخل اروقة الحركة حيال الكثير من القضايا.
والثاني ان ذاكرة قسم من قدامى الحركيين ومواكبي مرحلة التأسيس تختزن علاقة رمزية بهذه البقعة الجغرافية وعلاقتها بالرمز المؤسس للحركة الامام المغيّب موسى الصدر، فتصرّفوا وكأنها انتُزعت منهم انتزاعا، الى درجة ان أحد قدامى الحركيين المبعدين عنها كتب موضوعا موسعا عن هذا الامر تحت عنوان: “جنتا مدرسة الامام الصدر”.
ليس خافيا عند كل المنخرطين في بيئة الشيعية السياسية والرحم التكويني فيها في مطالع عقد السبعينات من القرن المنصرم، ان جنتا الجردية القصية الواقعة عند اطراف السلسلة الشرقية هي المكان الذي أمّه الامام الصدر اكثر من مرة بعدما اقامت فيه الحركة الناشئة حينذاك اول معسكر تدريبي بعدما مهّد الامام الصدر للحدث يومها بشق طريق الى هذه البقعة النائية. ومن باب العِلم ليس إلا فان معسكر عين البنية له في ذاكرة الحركيين مكانة اكبر كونه شهد سقوط عشرات من كوادر الحركة الاوّلين من جراء انفجار لغم كانوا يتدربون عليه.
بناء على كل هذه الاعتبارات والوقائع، لم يكن امرا مستساغا لدى عِتاق الحركيين المعروفين بالتزامهم المبدئي ان تنفصل تلك البقعة من الوجدان الحركي لتصير جزءا من معلَم يضاف الى التراث الطويل للحزب، ولم يكن ممكنا ان تعبر الامور من دون ضوضاء.
لدى الحزب بطبيعة الحال الرد على هذه “الحملة الحركية المضمرة، المكتومة حينا والمكشوفة حينا آخر”، اذ ليس خافيا ان الحركة تخلت منذ عقود عن كل ما له علاقة بالتدريب والمعسكرات والدورات والسلاح الموهوب للقضايا الكبرى، وفضلاً عن ذلك فالمعسكر اياه وقع عمليا في قبضة الحرس الثوري الايراني الذي بدأت طلائعه بالتوافد الى سهل البقاع ابان الايام الاولى للاجتياح الاسرائيلي للبنان في صيف عام 1982 عبر مطار دمشق، ما أخرج هذه الارض من اي علاقة او صلة موضوعية ومادية بالحركة، بصرف النظر عما اذا كان هذا الخروج طوعيا ام فرضته التطورات الميدانية الناجمة عن الاجتياح، خصوصا بعدما انسلخ فريق من كوادر الحركة وقياداتها المتمركزة في البقاع (منهم السيد حسن نصرالله وحسين الموسوي وآخرون) والتحقوا بالمشروع الايراني الذي وجد فرصته للتمدد في لبنان.
وعلى رغم كل تلك الوقائع فان ثمة من يرى ان هذا الشعور بالامتعاض الذي استحوذ على وجدان عدد من الحركيين يعود الى امور اساسية تتعدى اللحظة وتتجاوز الحدث، وهي عمليا كانت شيئا كامنا ومتفاعلا لم تقدر مظاهر التوحد ولازمة الثنائية ان تبددها وتحجبها، وابرزها:
– ان في جو الحركة ملتزمين وانصارا ليسوا مرتاحين او معجبين بالحلف الثنائي القائم، اذ يهمس هؤلاء في دوائرهم الضيقة انه “تحالف غير متكافىء اصلا وانه أتاح لطرف ان يتقدم على حساب الطرف الآخر وان يحجب الاضواء عنه”.
وعلى رغم يقين الحركيين بان هذا الوادي (جنتا) قد آل منذ زمن سحيق الى غير الحركة كما هي حال معظم البقاع الشمالي، فان ما أيقظ الامتعاض والحفيظة هو شعور الحركيين بان ثمة مصادرة ناعمة لذاكرتهم واطوارهم النضالية في مواجهة الاحتلال ونموذجها معارك خلدة.
– واقع الحال هذا له ايضا صلة ليس بالماضي فحسب بل بالمستقبل الغارق بالغموض، خصوصا ان ثمة تساؤلات تعتمل داخل الحركة عن المصير والمستقبل والدور في ظل أمرين اثنين: الصعود الصاروخي للحزب في مقابل كثير من الكلام حول تراخي التنظيم عند الحركة وغياب الحديث عن المشروع والقضية والقيادة.
لم يعد الحزب مقيما على الخشية عينها من تطورات من شأنها ان تفجر التناقضات وتعيد عجلة الامور الى مرحلة صراع الثمانينات لاعتبارين اثنين: الاول حاجة الحزب الملحّة الى الارتباط مع الحركة وتشكيله ثنائيا لا ينفصم معها مع ادراكه للثمن الذي يدفعه من رصيده للمحافظة عليها، فضلا عن شعوره (الحزب) بفائض القوة بحسب تعبير خصومه، والثاني ان الحركة التي تصدت وواجهت في الايام الخوالي لم تعد كما كانت بعدما استنزفتها كثيرا عقود الحكم والتمرس بالسلطة، فضلاً عن حروبها الدائرية.
وعليه، لم يكن مفاجئا للراصدين للكلام الذي اطلقه سيد الحزب في اطلالته الاخيرة، والذي عرض فيه المراحل الثلاث التي مرت بها علاقة الحزب بالحركة، والتي كان مبتدأها صراعيا ثم استحال تنسيقا فتفاهما فثنائية، وانه يطمح قريبا الى ان تصير علاقة تكاملية، وهو عنوان ملتبس وحمّال تفسيرات وتأويلات وينطوي على وعود.