بقلم زهير هواري
لم يستطع “العهد القوي” الاطاحة بحاكم المصرف المركزي رياض سلامة، ليس بسبب حُسن ادارته للشؤون المالية والنقدية في البلاد، بل لأسباب وعوامل متداخلة، أبرزها السياسي الداخلي والخارجي. فالداخلي يتمثل في وجود قوى أساسية في الدولة تقف وراءه، ووراء أدائه أيضاً باعتبارها مستفيدة منه.
وهذه تبدأ من رئيس مجلس النواب ولا تنتهي برئيس الحكومة، و جمعية المصارف. جرَّب العهد بمختلف الوسائل “قبعه” من منصبه. وشنّ عليه حملات اعلامية كثيفة، وتسريبات وصلت أصداؤها إلى العديد من الدول الاوروبية.
وتمحورت هذه الحملات حول تحميله مسؤولية الانهيار الحاصل على الصعيدين المالي والنقدي، وتهريب الاموال إلى الخارج وشراء عقارات وتوظيفات في الملاذات الضريبية في الكاريبي وغيرها. وعندما فشلت هذه المحاولات لجأ الحكم إلى أسلحته القضائية الكيدية، فتعددت الدعاوى بحقه وحق شقيقه وسكرتيرته والمحيطين به.
وكان الواضح أنها تستهدفه لإزاحته من السباق لانتخابات رئيس الجمهورية واراحة جبران باسيل من “شر وجوده” كمنافس محتمل. والجميع يذكر “غزوات ” القاضية غادة عون على منازل سلامة، وصولاً إلى محاولة اقتحام المصرف المركزي، وعودتها من المهمة خائبة.
ليس المقصود من هذا الكلام الدفاع عن رياض سلامة، وهو كممثل للمنظومة في ادارة المصرف المركزي “جسمه لبّيس”، عبر السياسات التي مارسها منذ تبوأ هذا المنصب بعد أن جلبه الرئيس الراحل رفيق الحريري من شركة “ماري لينش”، وسلمه المفاتيح للدفاع عن الليرة.
وظلت هذه السياسات مقبولة ومطلوبة من الطبقة السياسية الطوائفية، طالما أن الاقتصاد اللبناني يحل مشكلاته عبر القروض والاستدانة واموال المغتربين سواء من خلال مؤتمرات دولية، أو طرح شراء سندات أسهم للديون اللبنانية بفوائد صاروخية في الاسواق المالية. وهكذا، بحق وغير حق تم تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية في حدود الـ 1515، ومع شعور اللبنانيين بمتانة نقدهم.
اطمأن الجميع إلى أن هذه البحبوحة دائمة، وأستمرت الدولة بأجهزتها والممسكين برقاب المؤسسات من أتباع هذه الطبقة، تصرف الاموال على مشاريع لا لزوم لها، أو أنها أُقرت فقط لتوزيع الارباح بين مقاولي السياسة والاعمال المتحلقين حولهم.
وتوّج سلامة سياساته بالهندسات المالية التي ارتدت مليارات الليرات على المصارف ومالكيها والمهيمنين عليها. لكن الوقائع التي تلاحقت محت بالنهار تصريحات سلامة في الليل حول متانة الليرة وصمودها في وجه الاعاصير العاتية التي تسارعت في غضون الاعوام الماضية.
وهنا بحث العهد عن ” كبش فداء ” يحمله المسؤولية فوجد في سلامة “العجل المسمّن” من خلال التحقيق الجنائي، لأنه لا يعقل أن يتهم حاشيته في التيار وزملاءهم في الحكم من الذين دعموا وصوله وعقدوا التسويات معه وشاركوا في الحكومات، التسبب بافلاس الدولة من خلال غياب السياسة الاقتصادية – المالية المدروسة و”البعزقة ” عبر النفقات العشوائية.
النموذج المصري
وكي لا يبدو مثل هذا الكلام من باب لزوم ما لا يلزم، نعتمد على نموذجين في تعيين الحاكم المركزي ودوره، اولهما في مصر التي تمر بفترة حرجة تدفعها إلى البحث عن استثمارات في أي مكان تتوافر فيه الاموال. بالطبع يجب أن يعطف ذلك على ما مرت وتمر به، كسائر الدول لجهة تفشي وباء كورونا وندرة الدخل السياحي ومضاعفات الحرب الاوكرانية الروسية ومعضلة علاقاتها مع اثيوبيا حول سد النهضة، وتأثيراته على امدادات مياه النيل وانخفاض مساحة الزراعات التي تسد جزءاً من حاجات البلاد.
بالطبع الآن يهتز الجنيه المصري، وترتفع اسعار المواد الغذائية خصوصاً الاساسية التي تحظى باستهلاك واسع من جانب المواطنين. وفي مثل هذا الوضع المفتوح على شتى الاحتمالات السلبية، لا يستطيع حاكم البنك المركزي القيام بالمعجزات للحفاظ على قيمة الجنيه.
وعلى هذا الاساس استقال حاكمه طارق عامر وجاء بدلاً منه حسن عبد الله. الآن تضج الصحف المصرية بالنقد للحاكم السابق، باعتباره كتم عن المصريين حقيقة الاوضاع الاقتصادية الفعلية للبلاد، ما ادى إلى خسارة مليارات الدولارات التي كان من شأنها تحسين وضع الميزانية العامة.
لكن الامور لم تبق ضمن هذه الحدود، فقد بدأت طلائع خروج الأموال من البلاد ما ساهم في تأزم اضافي على وضع الجنيه، واضطرار الدولة للمسارعة لمحاولة إنقاذ الموقف من خلال الاقتراض، وطرح بيع حصص الحكومة في بعض الشركات المربحة، وترحيل الحاكم السابق. لم يكن خروج عامر مسألة مماثلة لما يعانيه سلامة من تفكك الدولة وتحلل الاقتصاد وانهيار سعر صرف الليرة ووجود مراكز قوى وكل “تشد اللحاف إلى عندها”.
لكن المؤشرات كانت تدل على أن الدين الخارجي المصري قد وصل لأكثر من 157 مليار دولار مع نهاية الربع الأول من العام الحالي، وهو ما لم يعلنه البنك المصري إلا منتصف شهر أغسطس/ آب الحالي، بعد أن أذاعه البنك الدولي قبله بأسابيع.
لا يمكن اتهام عامر بالتسبب بالأزمة، ولا يمكن اعتبار وصول عبد الله حلاً لها، فمصر تعيش منذ سنوات متلاحقة وسط حال عجز في الحساب الجاري، نتيجة لاستنزاف العملات الصعبة نتيجة الاستيراد المفرط وندرة في الصادرات، ولم تتمكن إيرادات السياحة وعائدات قناة السويس وتحويلات العاملين في الخارج من سد هذه الفجوة المتعاظمة، وكلها عوامل تقود إلى تراجع قيمة الجنيه.
وهو الإجراء الذي لم تتخذه السلطات خلال السنوات الماضية، ولجأت إلى رفع معدلات الفوائد لجذب الاموال، رفضاَ أن يعبر التخفيض عن حقيقة الاوضاع السياسية المضطربة لاسباب بينها اجتماعية وطائفية… والاقتصادية بعد ارتفاع الطلب على الدولار وشح المعروض منه.
والحصيلة كانت ابعاد عامر والمجيء بعبد الله في عملية تمويه على مصدر المشكلة، بما هو تغوُّل أصحاب الرساميل، والهوة الاجتماعية المتصاعدة بين طبقات وشرائح المجتمع المصري، وضعف البنية الانتاجية، والاعتماد على الديون والقروض والمستوردات الخارجية.
السيستام الاميركي
يقال أن الود كان مفقوداً بين الرئيس عبد الفتاح السيسي وعامر، وهو ما تسبب بالتغيير الحاصل الآن في هذا الموقع الرئيسي، على نحو مشابه لما يحدث بين الرئيس ميشال عون وصهره جبران باسيل وسلامة . وهما نموذجان عن إدارة بلاد لا تعترف بالوقائع الاقتصادية القاهرة.
فالليرة اللبنانية مثلها مثل الجنيه المصري تعاني من غياب السياسات العلمية التي تضع الامور في نصابها الفعلي، بما فيها تخفيض سعر الصرف بالتدرج في ظل الأزمة، وهو ما يسمى بالافلاس المدروس. بدلاً من ذلك استمرت المكابرة حتى الوصول إلى لحظة الحقيقة المُرة. اذا انتقلنا للولايات المتحدة لا نجد أن العلاقة بين حاكم البنك الفيدرالي جيرونم باول والرئيس الاميركي علاقة مشخصنة، سواء اسمه أوباما أو ترامب أو بايدن.
صحيح أن الرئيس هو من يقترح اسمه واسم نائبه، ولكن القرار النهائي في مكان آخر. والملفت أن تغيير الرئيس قد لا يستتبع بالضرورة تغيير الحاكم، اذ إن الاهداف لا علاقة لها بالاشخاص، بقدر ما جاءت نتيجة طروحات ومواقف وضغوط قوى وخطط ومشاريع. وعلى الرغم من الافتراق بين سياستي كل من ترامب وبايدن مثلاً واصل الاقتصاد الأميركي انتعاشه.
لكن الخلاف الذي طرأ بين بايدن وباول يرتبط بحل معضلتي التضخم والركود راهناً، علماً أن العلاقة شبه رسمية بينهما، أي أنها محكومة للنصوص الدستورية التي تحدد لكل منهما مهامه. ومن المعروف أن التوجه العام في الدساتيرالحديثة يحرص دوما على استقلالية البنك المركزي وحاكمه عن السلطة السياسية، فلا يستطيع أي مسؤول مهما علا موقعه أن يملك الحق الحصري في اختياره، ولكنه لا يُترك دون مساءلة أو محاسبة، ولا يُسمح له بإخفاء المعلومات، إذ تعد الشفافية سمة مميزة للإدارة والمساءلة في الدول المتقدمة.
ففي الولايات المتحدة يُرشَّح رئيس ونائب رئيس إدارة البنك الفيدرالي من قبل الرئيس، ويُصادق عليهما مجلس الشيوخ المنتخب بصورة حقيقية، بعد استجواب كلّ منهما على حدة، في جلسات منقولة على الهواء مباشرة، لتوسيع المعرفة بآرائهما في أهم القضايا التي يواجهها، أو يتوقع أن يواجهها، الاقتصاد الأميركي في السنوات المقبلة.
ويفترض برئيس البنك أن يجيب بعدها على كلّ أسئلة الصحافيين. ويستمع البنك الفيدرالي في أميركا لاصوات ومخاوف المستهلكين، والناس بصفة عامة، من خلال إجراء الأبحاث وتحليل السياسات ومراقبتها.
وخلال فترة رئاسته للبنك، التي تمتد لأربع سنوات يمكن تجديدها، يُعد البنك الفيدرالي “تقرير السياسة النقدية”، الذي يستعرض فيه مختلف التطورات الاقتصادية المحلية والعالمية، والكيفية التي ينوي البنك التعامل معها بها، كما يقدم رئيسه شهادته أمام لجان تابعة للكونغرس مرتين على الأقل كل عام، وتذاع تلفزيونياً في بث مباشر.أو في حالة وجود أمر هام يستدعي سماع شهادته فيه. كما تُنشر محاضر الاجتماعات كي يدرك المعنيون فحوى السياسات النقدية.
عرضنا هذه النماذج الثلاثة لتبيان أوجه القصور والعجز في أداء السلطات التشريعية والتنفيذية العامة في لبنان ومصر تجاه دور حاكم البنك المركزي، وهو على ما هو من الخطورة. والأهم في المقارنة كيف تدار الامور بشفافية التي تفتح على معاينة حقيقة الاوضاع، وتحدد المسؤوليات والامكانات دون مبالغة، أو “غسل الايدي” مما يحدث من عجائب الامور، وهي مسؤولية سياسية في المقام الأول والأخير وتتجاوز شخص الحاكم وصلاحياته.