بقلم الأستاذ محمد ياسر الصبان
باحث عن تطوير فرع جديد في علم السياسة بعنوان “هندسة أمن وأمان المجتمع”
الجواهر الثمينة كالماس والياقوت والزمرد كانت بالأصل فحم أسود لا قيمة له. حولتها الحرارة المرتفعة والضغط الشديد الى جواهر مشعة.
كذلك الإنسان والمجتمعات منها فحم تفتته الشدائد ومنها ما يتحول بفضل الشدائد الى تحقيق المعجزات. المهم ان يثق الإنسان بنفسه وبأن الشدائد والازمات نعمة يريد بها الله ان نرتقي ونتطور لنصبح جواهر تشع بنور علمها وعملها للبشرية كلها.
والأزمة اللبنانية الخانقة المتفاقمة غير المسبوقة عالمياً، هي نعمة كشفت حقائق علمية يستحيل أن تكشف بسهولة. ويستحيل أن يستوعب العقل البشري الإمكانيات المترتبة على معرفتها ودراستها.
فلأول مرة في تاريخ الشعوب ينهار القطاع المصرفي برمته ويكتشف كل الناس انه قطاع لصوصية بكامله من ألفه الى يائه، فبالعادة ينهار او يفلس مصرف او اثنين او خمسة ولكن تستمر باقي البنوك وتنتعش مستفيدة من انتقال الزبائن اليها.
أما في لبنان، فقد انكشفت هذه الغدة السرطانية التي تقوم بتوليد النقد الكتابي الوهمي بعشرات اضعاف كمية النقد الحقيقي وتسرق الخيرات التي تحملها النقود بتسرب الثروة دون ان تنقص كمية النقود.
إلا ان بعض المدعين في علم الاقتصاد والمال وبدلاً من الاستفادة من هذه الفرصة العلمية الذهبية يقومون بالترويج لإعادة هيكلة القطاع المصرفي معتقدين بأن الاقتصاد لا يقوم بدون المصارف التجارية.
أي ان عقلهم لا يقوى على التفكير المنطقي السليم الذي انعمه الله على اللبنانيين. يضاف الى هذا الكشف العلمي عدة حقائق مذهلة ومهمة لا يمكن ان تحدث في أي مجتمع آخر، ومنها إنكشاف الفارق بين النقود الحقيقية والنقود الكتابية الوهمية. إذ أن دفتر شيكات لم يعد يستطيع شراء أوقية سكر في لبنان بينما يشتري مبنى كامل في كل أنحاء العالم.
وكشف النقد الوهمي مسألة علمية مهمة جداً لأن توليد النقود الوهمية الكتابية مثله كمثل تزوير العملة وهو نوع من الضريبة المخفية التي تفرضها البنوك على المجتمع وتحقق ثروات هائلة دون أن تذرف نقطة عرق واحدة.
ويضاف الى الاكتشافات المهمة مسألة قدرة السلطة على الانفاق العام من خلال إصدار النقد بواسطة البنك المركزي وهي بالتالي ليست بحاجة أبداً لكل وزارة الجباية ولا لأي نوع من انواع الجبايات الضريبية المؤذية للإقتصاد وللأخلاق ولكرامات الناس.
علماً ان توقف قدرة السلطة على الجباية واضطرار السلطات للإنفاق بضخ السيولة حدث مراراً عبر تاريخ المجتمعات وكان على الدوام أحد أهم اسباب النمو الاقتصادي وتوليد المجتمعات الصناعية العظمى عندما يستخدم الضخ لتفعيل الإنتاج الاقتصادي لا للإنفاق غير المجدي والتوظيف العشوائي والبذخ والسرقة.
والحق أن المدارس الاقتصادية الحديثة لم تتعمق في دراسة هندسة أمن المجتمعات والعلاقة الوطيدة بين السياسية وتجارة المال والمادة الحيوية التي تنتقل بين الناس بواسطة النقود. وللأسف فإن الأبحاث هشة وسطحية بمعظمها.
ومثال ذلك أن العالم كله يعتقد بأن الولايات المتحدة فرضت استخدام الدولار بالقوة على شعوب العالم، بينما الحقيقة هي ان ما فرض بالقوة على الشعوب هي عملات الدول المتخلفة والمنهارة بينما أدخلت الولايات المتحدة عملتها بواسطة المساعدات والأعمال الخيرية، وهذا ما لم تدقق فيه المدارس والأبحاث الاقتصادية.
والشواهد على هشاشة علم اقتصاد المجتمعات كثيرة، ولكن ما يهمنا في هذه العجالة هو ما تكشف من حقائق بسبب تفاقم الأزمة اللبنانية، والأهم هو الإستفادة من هذه الحقائق وعدم الإصرار على ما في الكتب من مسلمات خاطئة والإستمرار في تجربتها بحثاً عن الخروج من براثن الأزمة التي لم تعد تنفع معها العلاجات التقليدية المؤذية.
ومثال ذلك الإصرار الاكاديمي على إعادة هيكلة القطاع المصرفي أو على توليد منصة عملات لحماية سعر صرف الليرة اللبنانية، لأن هذه العلاجات الهشّة تعطي براءة ذمة للصوص الهيكل في الاستمرار بسرقة ثروة الشعب اللبناني، وتبقي على سلطة السياسيين الفاشلين في مواقع السلطة ببراءة ذمة اكاديمية تعتقد بأن علاج الاورام السرطانية ممكن بحبوب منع الحمل.
أما الحقيقة العلمية التي يجب ان تنتج عن تفاقم الأزمة لتعيد لكل صاحب حق حقه ولتنقذ اللبنانيين وتحقق لهم الأمن والأمان والسعادة فهي الخروج من تمويل الإنفاق العام الحكومي بواسطة الجباية الضريبية او بواسطة عجز الموازنة، والذهاب الى تمويل الإنفاق بالنمو الاقتصادي الذي يولد الثواب والعقاب لكل مسؤول في السلطة، لان نمو كثافة الثروة في النقود يولد الخير والبركة والأمان لكل المجتمع.
ولكن نمو هذه الكثافة لا يأت فقط من الثقة بواسطة منصة العملات ولا من النمو الاقتصادي بكافة فروعه فقط، بل إن العدالة سبب وبالتالي فإن مدخول القاضي يجب ان يتناسب مع نمو او تراجع كثافة الثروة التي تنقلها العملة الوطنية، والأمر نفسه ينساب على الرئيس والوزير والنائب والعسكري والمعلم والمسؤول عن كمية ضخ النقد.
وهذا ما يسمى “التمويل بالنمو” وهو الثورة العلمية الحقيقية التي ستجعل من الفحم جوهرة تشع على العالم بفكر إصلاحي جديد يحقق الأمان والعدالة والتنمية والسعادة لكل البشر.