بقلم منى فياض
موضوع التعذيب ليس جديداً، فهو متجذّر في التاريخ، وهناك وثائق عن التعذيب منذ أيّام رمسيس الثاني. كان التعذيب في أوروبا في العصور الوسطى يمارس علناً، وكان مناسبة ليتجمّع حوله الجمهور المتحمّس للفرجة. لكن برزت حساسية جديدة في أوروبا، أدانت ممارسة التعذيب بتأثير المواقف الفكرية المناهضة. عاد التعذيب إلى الظهور في أربعينيات القرن العشرين، خصوصاً عندما استخدمته النازية على نحو مبرمج ووحشي. كما استُخدم أداةً للتجارب السريرية على الجنود الأسرى في الحرب العالمية الثانية. ثمّ انتشر استخدامه لقمع جميع أنواع المعارضة على نحو واسع.
ويُستخدم التعذيب كأداة سياسية تمكّن الحكام من السيطرة على مجريات الأحداث، خاصة عندما تشعر دولة ما بأنها مهدّدة في سلطتها ممّن تطلق عليهم صفة “الأعداء”، سواء الداخليون أو الخارجيون، فتلجأ إلى التعذيب المنظم لقمع المعارضة السياسية. وهذه من سمات دول الاستبداد التي يحكمها الحزب الواحد والرئيس إلى الأبد. لكن ذلك لا يمنع أن بعض البلدان الديموقراطية تلجأ إلى التعذيب.
وبحسب منظمة العفو الدولية، في كتاب “الناجون من التعذيب”، هو موجود في ما يقارب نصف بلدان العالم، بالرغم من جميع الاتفاقيات الدولية المناهضة للتعذيب.
ينتمي الناجون من التعذيب إلى مروحة واسعة من البلدان، من أميركا اللاتينية وآسيا وأفريقيا إلى بلدان الشرق الأوسط خاصّة. وقد يكون من الصعب معرفة أعدادهم بدقة لأنهم لا يجرؤون دائماً على الاعتراف لخوفهم من الانتقام.
تمارس الدول طرق تعذيب مبتكرة وهو قد يحصل في أماكن ومراكز شرطة قريبة من مراكز السكن. ولكن التعذيب قد يحصل أيضاً في أماكن مجهولة. فلقد أشار الياباني نوتوهارا الى أنه كان يزور مدينة تدمر السورية، ويمرّ بالقرب من سجنها الشهير، دون أن يعرف حتى بوجود سجن.
ونجد من ضحايا التعذيب شخصيات بارزة ناضلت ضدّ الطغيان ومن أجل إرساء الديموقراطية في بلادها، أو هي تنتمي الى أقليات دينية أو عرقية أو ثقافية.
ما أعادني إلى موضوع التعذيب حالياً، مقتل الموقوف السوري بشار أبو السعود تحت التعذيب، الذي انتشرت صور تعذيبه الوحشي، ومحاولة الأمن العام اللبناني لفلفة القضيّة لحماية الجناة.
لقد سبق لي أن عملت في أواخر التسعينيات ومطلع الألفية الثانية على الموضوع، عندما طُرحت قضيّة الأسرى والمعتقلين المحرّرين من السجون الإسرائيلية وكيفية التعامل معهم من قبل الحكومة لجهة رعايتهم وضمان مستقبلهم، مع إحدى الجمعيات التي كانت تهتمّ بقضيتهم. وأجريت مع طلابي بعض الأبحاث حول التعذيب الذي تعرّضوا له والآثار التي نتجت عنه، بواسطة دراسة الحالة وإجراء المقابلات الطويلة. وفي الوقت نفسه تقريباً صدر كتابي “السجن مجتمع بري”، عن السجناء اللبنانيين.
أذكر حينها أن صديقاً سورياً سألني لمَ لا أهتم بسجناء الرأي؟ وأذكر أني أجبت أن لبنان ليس لديه سجناء رأي، فأشهر سجين سياسي لدينا، سمير جعجع، لم يدخل السجن إلّا بعد تلفيق قضية جنائية له سُجن على أثرها.
لكن في السنوات القليلة الماضية بدأت تشيع ممارسة التعذيب بنحو متصاعد وخصوصاً ضد سجناء الرأي من ثوار 17 تشرين الأول 2019، بحيث يلاحق بعضهم لمجرّد تغريدة تطال أحد القادة السياسيين. ونتلمّس يومياً، التحوّل المتسارع للبنان الى دولة بوليسية – أمنية قمعية على خطى النظام السوري، الذي لا يزال يحتفظ بعلاقات ضيّقة ببعض أوساط الأجهزة الأمنية.
ومن حسن الحظ أن التعذيب يلقى معارضة قويّة في لبنان من قبل المحامين والجمعيات ولجان حقوق الإنسان الذين يتابعون الموضوع بجدية، ويبذلون الجهد لتطبيق الاتفاقيات الدولية التي وافق عليها لبنان.
لن أعرض أنواع التعذيب التي تمارس في مراكز التوقيف والسجون. وسأكتفي بعرض آثار التعذيب على الناجين منه.
الهدف من التعذيب محو الفرد، فهو قد يحطم شخصية الضحيّة بحيث يغيّر حياته الخاصّة والاجتماعية إلى درجة أنه قد يحطّ منها تماماً. والمشكلة أن التعذيب قد لا يتوقف حتى عندما تنتزع المعلومات من الضحيّة. فرغبة الجلاد هي تحطيم إرادة الضحية وجعل الشخص “ميتاً – حياً”. كما أنهم قد ينجحون في تحويله إلى مخبِر. ومن أهدافه أيضاً التطهير العرقي والترهيب والقمع، أو إخافة السكان وترويعهم من أجل السيطرة عليهم، كما حصل ويحصل بعد ثورة 2019.
من الانعكاسات النفسية للتعذيب أنها تجعل الإنسان عاجزاً، وتثير ردود فعل عميقة ومؤثرة. بالطبع لم تتوضّح بعد آثار التعذيب النفسي تماماً على الضحية، لكن لا شك في أن ردود الفعل تختلف باختلاف عوامل السن والجنس ومدى القناعة السياسية أو الخلفية الثقافية.
قام باحثان أستراليان بتحليل منشورات 12 مركزاً لإعادة تأهيل اللاجئين في أوروبا الغربية وأميركا الشمالية، كما تنقل منظمة العفو الدولية، فأمكنهما أن يلاحظا أن الضحايا يعانون من أعراض نفسية مزمنة وأنهم يتعرّضون لجروح خطيرة أثناء التعذيب لا يتم التبليغ عنها. كذلك وجدت دراسة دنماركية أن أكثر العوارض بروزاً بعد التعرّض للتعذيب، هي الكوابيس المتواترة والأعراض الانفعالية (القلق والاكتئاب المزمنان) والإحساس الذاتي بتغيّر الهوية.
ولم يقفوا على حالات شفاء تلقائي (من دون علاج) عند من تم فحصهم. وقد تمرّ أشهر وسنوات قبل أن تظهر على الناجين من التعذيب أعراض وردود فعل نفسية، إذ تستنفدهم الطاقة الهائلة التي يبذلونها من أجل تدبّر أمورهم والهرب من بلادهم كما الاهتمام بسلامة عائلاتهم ولمّ شملها وتدبير أحوالهم في البلدان التي يلجؤون إليها. فلا تبدأ ردود فعلهم بالظهور إلا عندما يتوفر لهم بعض الاستقرار. كما أن ضحايا التعذيب، شأنهم شأن المساجين، يصبحون شديدي التحفّظ لأنهم يخشون إلحاق الضرر بأقربائهم. وقد يشعرون بالذنب لأنهم يعدّون أنفسهم مسؤولين عمّا تعرضت له عائلاتهم مثل التوقيف أو التعذيب أو القتل، والذنب عمّا آلت إليه أحوال الزوجة والأبناء. والناجي من التعذيب يلازمه شعور آخر بالذنب، فهو يسأل نفسه دائماً: لمَ نجوت فيما الآخر مات؟ من هنا وجود احتمال الانتحار.
ما عدا ذلك، يمثّل القلق ومشاكل الأرق والكوابيس ثالوثاً شديد الوطأة والتواتر. فنومهم سيئ عموماً، متقطع وسطحي وقد لا يدوم لأكثر من 3 أو أربع ساعات متتالية. وقد يكون اضطرارهم إلى إجراء معاملات حيث يوجد أشخاص بزيّهم الرسمي باعثاً على القلق؛ فهم يصابون بالذعر وقد لا يصلون في الموعد…
وهم لا يشاركون الآخرين في ما عاشوه، فيعيشون الذكريات وحدهم ويخافون بالتالي من الإصابة بالجنون. ومن ردود الفعل المتواترة نجد التعب والتوتر الشديد، ويصبحون سريعي الغضب ويجدون صعوبة في التحكم بمشاعرهم. وغالباً ما تقل قدرتهم على التركيز بسبب ضعف ذاكرتهم الأمر الذي يجعلهم يخشون من أن الجلادين قد أتلفوا لهم دماغهم.
ومن الآثار الخطرة نجد النزعة نحو الانزواء والشعور بهويّة متبدّلة إذ يصعب عليهم التعرّف إلى ردود فعلهم، الذاتية الأمر الذي يصيبهم بالهلع. أما الذين خضعوا لتعذيب جنسي فتتكوّن لديهم صورة سلبية عن ذواتهم ويشعرون بالخزي والإثم ويعتقدون أنهم فقدوا كرامتهم. وتبرز لديهم المشاكل الجنسية، كالنقص في الرغبة الجنسية، مما يؤدّي إلى مشاكل مع القرين.
أما آثار التعذيب الجسدي، فتنعكس أمراضاً مزمنة والتهاباً في الكبد والإسهال وتهيّج القولون والأمراض الصدرية المزمنة التي قد تنتهي بالموت. وهناك آثار أخرى تظهر بعد مدة، في الأذنين والأنف والحنجرة وفي الأسنان والقلب والقناة الهضمية، والجهاز البولي والتناسلي والجهاز العصبي المركزي والعصبي المحيط.
لذا من واجبنا محاربة جميع أنواع التعذيب والنضال الجدي لتطبيق المعاهدات والاتفاقيات الدولية والوقوف بوجه من يعمل على تحويل لبنان الى دولة استبداد.