بقلم د. ميشال الشماعي
على أبواب انتخابات رئاسيّة في العام 2004، بعد نهاية ولاية الرئيس إميل لحّود الذي تسلم منصب رئاسة الجمهورية في 24 تشرين الثاني 1998، وبعيد نهاية ولايته صدر القرار الأممي 1559 في 2 أيلول من العام 2004 الذي نصّ في البند الخامس منه على الآتي: “يعلن تأييده لعملية انتخابية حرة ونزيهة في الانتخابات الرئاسية المقبلة تجرى وفقا لقواعد الدستور اللبناني الموضوعة من غير تدخل أو نفوذ أجنبي”.
وذلك في أعقاب الحديث عن رغبة الاحتلال السوري بالتجديد لإميل لحّود. فتمّ التجديد له لولاية تبلغ ثلاث سنوات رغماً عن أنف المجتمع الدّولي وبرغم صدور القرار 1559، وعاش لبنان وقتها ثلاث سنوات مضطربة جدًّا، شهد فيها حرباً إسرائيليّة ضروساً، وسلسلة اغتيالات بدأت بمحاولة اغتيال نائب اللقاء الديمقراطي مروان حمادة، وصولاً إلى اغتيال رئيس الوزراء، رفيق الحريري، في 14 شباط 2005، وهو المعارض تجديد ولاية لحود.
في تلك المرحلة، خضع المجتمع الدّولي لإرادة اللبنانيّين تحت ذريعة إعطاء فرصة للبننة منظّمة “حزب الله”، وربّما تحوّلها إلى فريق سياسي صرف، من ضمن التركيبة السياسيّة اللبنانيّة. فتبيّن بعد هذه السنين كلّها أنّ هذه المنظمة صارت أكثر أمميّة، واتّسعت أنشطتها الإرهابيّة من إيطاليا إلى اليونان وقبرص وفنزويلا واليمن والعراق وسوريا وعدّد بلا حرج …
اليوم نحن على أبواب انتخابات رئاسيّة، ولعلّ الشيء الوحيد الذي تخشاه منظمة “حزب الله” بعدما قبضت على الحكم بالمطلق في لبنان هو تدخّل المجتمع الدّولي. لأنّ تلك هي الخرطوشة الأخيرة المتبقيّة لاستعادة الدّولة المخطوفة من هذه المنظمة. صحيح أنّه يهوّل بالمؤتمر التأسيسي، لكنّ ذلك كان قبل قمّة جدّة التي أمّنت المرجعيّة الإقليميّة الراعية للدولة اللبنانيّة. هذه المرجعيّة التي كانت تطمح منظمة “حزب الله” الى استبدالها بالمرجعيّة الإيرانيّة. وبالتّالي قمّة جدّة أسقطت هذه الورقة بشكل نهائي من يد المنظمة.
ناهيك عن أنّ الانتخابات النيابيّة في 15 أيّار 2022 قد أسقطت الأكثريّة النيابيّة من يد المنظمة، ولو أنّ الأكثريّة الحقيقيّة المعارِضَة لم تتبلور بشكل كلي بعد. لكن على ما يبدو أنّ الملفّ الرئاسي قد يجبر هذه المعارضة المتنوّعة، مع محافظتها على تنوّعها هذا، بأن تتّحد خلف اسم رئيس يكون مشروعاً لاستعادة الدولة المخطوفة.
ولا يظنّنَّ أحد أنّ المجتمع الدّولي غير مكترث بالمسألة اللبنانيّة، فعلى الأقلّ بوّابة الترسيم التي توليها منظمة “حزب الله” الشأن الأعظم هي مفتاح يمكن للدولة أن تستعيده عبر المادّة 52 من الدستور اللبناني التي تجيز لفخامة رئيس الجمهوريّة أن “یتولى المفاوضة في عقد المعاهدات الدولیة وإبرامها بالاتفاق مع رئیس الحكومة. ولا تصبح مبرمة إلا بعد موافقة مجلس الوزراء.
وتطلع الحكومة مجلس النواب علیها حینما تمكنها من ذلك مصلحة البلاد وسلامة الدولة. أما المعاهدات التي تنطوي على شروط تتعلق بمالیة الدولة والمعاهدات التجاریة وسائر المعاهدات التي لا یجوز فسخها سنة فسنة، فلا یمكن إبرامها إلا بعد موافقة مجلس النواب”.
من هنا، وعملاً بالبند الخامس من القرار 1559 يجب أن يتمّ انتخاب رئيس الجمهوريّة. وأيّ فراغ مفتعَل في هذا الصدد سيؤدّي حتماً إلى تدخّل دوليّ سيفرض انتخابات رئاسيّة، لإعادة الإنتظام المؤسّساتي إلى الدّولة اللبنانيّة. وذلك لأنّه من غير المسموح سقوط لبنان. ومنظمة “حزب الله” تدرك مدى خطورة ذلك عليها كميليشيا مسلّحة بنظر المجتمع الدّولي وجب حلّها، كما نصّ البند الثالث من القرار 1559 حرفيّاً :”يدعو إلى حلّ جميع المليشيات اللبنانية ونزع سلاحها”.
وما يجب التنبّه إليه في نصّ القرار المذكور هو البند السادس منه الذي ينصّ على “التنفيذ الكامل لهذا القرار ولجميع القرارات ذات الصلة بشأن استعادة لبنان سلامته الإقليمية وكامل سيادته واستقلاله السياسي”. ما يعني عمليّاً القرارين 1680 عن ترسيم الحدود مع سوريا و1701 عن ترسيم الحدود مع العدوّ الإسرائيلي. وذلك كلّه كما ورد في البند الأوّل “تحت سلطة حكومة لبنان وحدها من دون منازع في جميع أنحاء لبنان”.
هذا الفراغ الذي يهوّلون بتحقيقه لفرض شروطهم سينعكس سلباً عليهم. ولا رهان على المجتمع الدّولي من دون الرهان على الأحرار من السياسيّين نواباً ووزراء حاليّين وسابقين، وأحزاباً وفاعليات مجتمعيّة، لمطالبة الكونغرس الأميركي مع مجلس الأمن الدّولي وجامعة الدول العربيّة بتطبيق القرار 1559، وتحمّل مسؤوليّتهم تجاه لبنان الفاعل في الأسرتين الدّوليّة والعربيّة. ماذا وإلا سيصبح لبنان قاعدة إيرانيّة لتصدير الثورة الإسلاميّة منه إلى العالم العربي أوّلاً، ولمحاربة الغرب الكافر بنظر نظام الملالي وعملائه في لبنان ثانياً.
ولا يهوّلنَّ أحد بأنّ تطبيق هذه القرارات الأمميّة سيؤدّي إلى حرب أهليّة. فمتى كان تطبيق الإنتظام المؤسّساتي وانتخاب رئيس جمهوريّة في أيّ بلد في العالم يؤدّي إلى الحرب؟ ولا ينتظرنَّ أحد لحظة إقليميّة أو دوليّة مؤاتية ليتحرّك. فلنصنع لحظتنا بذاتنا كما فعل آباؤنا في زمن الرئيس الشهيد الشيخ بشير الجميّل والجبهة اللبنانيّة. لا خيارات أمامنا لنختار منها الأنسب والأفضل.
ويجب عدم المطالبة بتجزئة هذا القرار، أو حتّى تجزئة تطبيقه على الأراضي اللبنانيّة. مع العلم أنّ مَن يقدر على ذلك فليتقدّم. لبنان 10452 كلم2 ولا مناطق لأحد على حساب أحد. المطلوب اليوم قبل الغد وضع المجتمع الدّولي أمام مسؤوليّاته شرط أن يتحمّل الساسة وأصحاب القرار مسؤوليّاتهم في لبنان قبل فوات الأوان. وعندها لن ينفع البكاء وصريف الأسنان.