بقلم منى فياض
سعى العالم الحديث طوال القرن العشرين إلى وضع الدين في مرتبة شؤون الفرد الخاصّة، لكننا نشهد منذ بضعة عقود، عودة قويّة لأشكال تديّن مختلفة، ومن بينها تفاخرية تتحدّى الفضاء العام المحيط بها.
معظم الأشكال العنيفة التي برزت أخيراً، تُنسب باستمرار إلى الدين، علماً بأنها بعيدة عن تمثيل ما بقي من الأوضاع الدينية القديمة الآخذة في الزوال.
فالدينامية التي تحرّكها هي نفسها الدينامية التي تحدّد شروط وجودنا الثقافية والسياسية في العالم الحالي، ومنها زوال الحواجز القديمة وصعوبة وجود حضارات منيعة ومحصّنة في وجه العولمة التي تتخطى كل الحدود.
المسلمون يشكّلون الآن جزءاً من المظهر الثقافي والديني في هذا العالم الذي يولّد أيضاً ظواهر رمزية وثقافية مرتبطة بعضها ببعض، سواء بواسطة وسائل الإعلام أو عبر أشكال التواصل الجديدة أو عبر انتقال الجماعات من طرف إلى آخر. يضاف إلى ذلك وجود البؤر المتفجرة: من فلسطين إلى أفغانستان مروراً بالدول العربية الواقعة تحت الهيمنة الإيرانية، ما يولد التعاطف أو الإدانة أو التضامن، من دون ذكر المستجدّ منها.
بالنسبة الى المسلمين الذين يعيشون في الغرب فإن أغلبيتهم تكيّفت في البلدان المضيفة، وانتهت إلى الاندماج. لكن القليل منهم بقي متمسّكاً بموقفه السلبي من الاندماج، وذلك لأسباب متنوّعة: فهناك المشاكل المتعلقة باستقلال المستعمرات القديمة بعد الحرب العالمية الثانية، والمشاكل المتعلقة بإنشاء دولة إسرائيل وحرب حزيران 1967، والمشاكل التي نتجت عن انهيار الإمبراطورية السوفياتية، إضافة إلى سوء التكيّف الفردي.
كل ذلك أدّى إلى ظهور نوع جديد من الشهادة مختلف تماماً، وهو الشهادة على طريقة تنظيم القاعدة.
تأرجح موقف المجتمعات الإسلامية ممّن يقتلون المدنيين، سواء أكان الضحايا غربيين أم محليين، بين اعتبارهم أبطالاً أو قدّيسين، على ما اعتبر نصرالله قتلة الحريري المدانين قضائياً بالقديسين.
لكن من الملاحظ أن الحماسة تجاههم بدأت تخفت، وصارت تنحصر في دوائر الأصوليات المعنيّة بفبركتهم وتغطيتهم. والمؤشر، الإدانة الواسعة لمحاولة قتل #سلمان رشدي.
برزت ظاهرة القتل، أو نحر النفس، باسم الدين في العقود الأخيرة بقوة، خصوصاً بعد اعتداءات 11 أيلول 2001 التي صدمت العالم، وأنتجت تداعيات كارثية على العالمين العربي والإسلامي. ما دعا السوسيولوجيا، فرهاد خسرو خافار، إلى تأليف كتابه “شهداء الله الجدد” عام 2003 في باريس.
عالج في هذا الكتاب مفهوم الشهادة في الدين الإسلامي وقارنها مع الأديان الأخرى. فالفكرة التي شاعت أن الشهداء الجدد يعيدون إنتاج البنى التقليدية للمجتمعات الإسلامية غير دقيقة؛ فهم على ما يبدو، ينتمون إلى الأشكال الجديدة من الخروج على التقليد والتحرّر منه، بشكل مرضٍ أحياناً أو مبالغ فيه في أحيان أخرى.
إنهم يعتنقون أشكالاً من الشرعية لا تنتمي إلا شكلياً إلى التقليد المزعوم، تحت شعار تطبيق الإسلام الصحيح. لذا من غير الممكن تصنيف جميع أنماط النشاط المتطرّف التي تدّعي الإسلام في فئة الإسلام. إنه تديّن جديد يؤدّي إلى تقويض التقليد الديني.
في المذهبين السني والشيعي شخصية القديس موجودة فعلاً، لكنها تتحقق عبر البركة وتحقيق الأماني، وهي مختلفة عن شخصية الشهيد كما صارت عليه في المجتمعات الإسلامية التي تضعه بين البطل والقديس.
الشهيد الشيعي ليس قديساً، لكن عند اختياره الموت المقدس، يصبح بإمكانه أن يقارن نفسه بالشخصيات المقدسة، وأن يصبح من رفاقهم ويُصنَّف أيضاً كبطل. لكن بطولته بطبيعتها غير دنيوية ما دام التزم بقضية نبيلة ودينية تعود إلى منطق الاستحقاقات في العالم الآخر. والشهيد في المذهب الشيعي هو من يتمسك بهذه “القداسة الخاسرة” على نموذج استشهاد الإمام الحسين. أما الشهيد السني فهو يموت في سبيل الله عندما يشارك في الجهاد.
كان التقليد قد جعل من الحسين كائناً تفوق قدرته البشر وموته كأنه محدّد مسبقاً. قال الإمام السادس جعفر الصادق (توفي عام 765) “إن الحسين لم يرضع إطلاقاً من حليب أمه ولا من حليب أي امرأة أخرى. كان الرسول يحمله بين ذراعيه، ويضع إصبعه في فمه لكي يمصّه، ويقتات بهذا الشكل العجائبي لمدة يومين أو ثلاثة أيام. جسد الحسين يأتي من جسد الرسول. فالحسين نشأ من طبيعة تختلف عن طبيعة البشر”.
وبحسب فرهاد خسرو خافار فإن ظهور مفهوم الشهادة عند الشيعة مستجدّ، فلم تقلّد الجماهير الشهادة إلا خلال الانقلاب على الشاه أولاً، وفي ما بعد في الحرب الطويلة ضد العراق من 1981-1988. الظاهرة الجديدة إذن هي “تفريد” مأساة الشهيد أي أنسنتها وجعلها فردية.
يشير خافار إلى أن من المحتمل أن تكون المرة الأولى على صعيد مفهومي التي يحصل فيها فصل واعٍ بين الجهاد والشهادة. ففي التقليد السني عادة، كما لدى أغلبية مراجع التقليد الشيعة، ثمة علاقة تبعية بين الشهادة والجهاد، حيث تخضع الأولى للثاني. ففي سبيل نجاح الجهاد، يجب على المسلم أن يموت في “سبيل الله” أي الشهادة.
علي شريعتي، يدرج نوعين من الشهداء: من جهة لدينا الشهيد الذي يحارب العدو حتى الموت على غرار حمزة عم الرسول. ومن جهة أخرى لدينا الإمام الحسين. سُمّي حمزة سيد الشهداء، وبعد عاشوراء أطلق التشيّع هذا اللقب على الإمام الحسين. كلاهما سيد الشهداء: حمزة في ساحة شهداء الجهاد، والحسين من بين شهداء الشهادة. شهادة حمزة، وباقي المجاهدين، هدفها النصر أمّا الحسين فهدفه إنكار الذات في سبيل المقدّس.
هنا تنفصل الشهادة عن الجهاد. الفرق بين حمزة والحسين أن الأول كان يريد أن يموت كي يهزم العدوّ، بينما الثاني كان على يقين بأنه سيُهزم ويموت. كان الموت في هذه الحالة متعمّداً: تضحية من أجل الحق. بينما في الحالة الأولى الموت هو الحلّ الأقلّ سوءاً.
سبق أن عالجت موضوع عمليات قتل النفس، التي قام ويقوم بها الشبّان في فلسطين، من زاوية علم النفس والنيروفيزيولوجي وتفسيرها علمياً كرد فعل عدواني دفاعي نتيجة للسترس الذي يصل إلى حالاته القصوى، فتحصل تغيرات بيونفسية تؤدّي إلى نوع من الانتحار. فحتى لو تغاضينا عن الحق بتحرير الأرض، سنجد تفسيراً لا – دينياً لأعمالهم، ونقبل أو نتغاضى عن تسميتهم شهداء.
لكن أن ينطبق مفهوم “الشهادة” على كل عملية قتل إرهابية الطابع، أو على الشاب الشيعي اللبناني المحارب في سوريا وسائر الأرض العربية، ونعتبر موته “شهادة حسينية”، فهذا تزوير وافتراء.
من هنا أمكن القول إنها ظاهرة لا تبغي إعادة إنتاج البنى التقليدية في المجتمعات الإسلامية كما يوهمنا الملالي وأتباعهم. إن الشهداء الجدد هم الأشكال الجديدة من الانقلاب على التقليد الذي ابتدعه التشيّع المستجدّ، لأنهم باعتناقهم أشكالاً من الشرعية تنتمي شكلياً إلى هذا التقليد، يهمّشونه في الواقع.
ومنذ أن طوّر #الخميني مفهوم ولاية الفقيه، وجعل السياسة خاضعة للدين باسم الله، مستنداً إلى نفوذ رجال الدين الذي قوي إبّان الدولة القاجارية، لم يعتمد التجديد عنده بناءً على صفاته الفقهية فحسب، بل اعتمد أيضاً على صفاته كمحارب وسياسي.
استخدم الخميني خطاباً متطرّفاً، مستعيداً مانوية الخير والشرّ، وتوجّه إلى العالم الخارجي، أي الغرب من جهة والمسلمين من جهة أخرى. فجاء التنديد بتصرّفات أميركا في عملية استقطاب مزدوج، حيث الخير يواجه الشرّ، وتوجّه لاحتلال الكعبة. حالياً لم تعد أميركا مجسّدة الشرّ، ونُسي شعار “الموت لأميركا”. الموت الآن للسعودية، الدولة الدينية المسلمة كإيران.
يتدرّج الاستقطاب من التوجّه نحو الخارج، إلى التوجّه نحو الداخل. وهذا ما مارسه “حزب الله” في الداخل اللبناني، حين توجّه السيد نصرالله بعد حرب 2006 إلى أتباعه مطلقاً عليهم نعت “أشرف الناس”، واعتبر دولاراتهم نظيفة! أمّا خصومه فصنّفهم كـ”عملاء”. الشيعة منهم “عملاء سفارة” والآخرون دواعش وعملاء إسرائيل. ويتبيّن مع الوقت أن الجواسيس ينبعون من بيئته وبيئة حلفائه.
والآن الاستقطاب نفسه يحصل ضدّ السنة تحت شعار محاربة “آل سعود”. وكأننا أمام تشيّع ثالث تلجأ إليه إيران لإنقاذ طموحاتها الإمبراطورية المأزومة. لم يبق لديها سوى استخدام التشيّع والمذهبية كسلاح أخير لكسر روح التضامن العربي من أجل السيطرة على المنطقة بعد تفتيتها.