بقلم د. ميشال الشماعي
تُعرَفُ الديبلوماسيّة الإيرانيّة بطريقة استنفاد الوقت حتّى اللحظات الأخيرة. وهذه هي التقنيّة التي اعتمدتها في مفاوضاتها النوويّة مع الغرب. إلّا أنّ الغرب قد حزم أمره، وباتت مسألة مفاوضة إيران بالنسبة إليه في آخر سلّم أولويّاته.
وهذه التقنيّة التي يعتمدها محور إيران في لبنان. فعميله اللبناني، أي منظمة «حزب الله»، يستنفد الوقت مع خصومه السياسيّين حتّى اللحظات الأخيرة في محاولة لتلقّف تبدّل موازين قوى إقليمية ما، في لحظة ما، قد يستطيع عندها استغلاله لصالحه بهدف خلق ستاتيكو جديد يطيل عمره السياسي وإطباقه على لبنان لتثبيته في محور إيران الأيديولوجي.
من هنا، على القوى السياديّة الانتقال إلى تبدّل في استراتيجيّة مواجهتها لمحور إيران انطلاقاً من لبنان. وبالطبع كي لا يفسّر كلامنا بطريقة خاطئة، لا نعني هنا الانتقال إلى استراتيجيّة مواجهة عسكريّة أي محاربة المنظمة المسلّحة بالسلاح، وفق ما هي تبرع. بل من الضرورة هنا، بعدما خاض المحور السيادي المواجهة السياسيّة اللبنانيّة المحلّيّة الصرف مع محور إيران المسلّح، وبعدما ووجه السلاح بالكلمة، وبعد سلسلة الجرائم المسؤول عنها هذا السلاح وحتّى الغزوات والفوضى المنظمة، لا يمكن الاستمرار باستراتيجيّة المواجهة نفسها.
مع العلم هنا أنّ هذه الاستراتيجيّة قد أدّت قسطها للعلى، والدّليل أنّ قاضياً واحداً وقف بوجه منظومة عرقلت القضاء بالكامل. ونتائج الإنتخابات النيابيّة قد أظهرت الأكثريّة الحقيقيّة لتغيُّر المزاج الشعبي الذي فرض المواجهة. لذلك، لا يمكن بعد اليوم المواجهة بالوسائل القديمة نفسها.
أو الحديث عن توافق تسووي تحت ذريعة حقن الدّماء. والكرة هي بملعب الفريق السيادي لا بالملعب الإيراني. ولذلك لا ينفكّ هذا الأخير عن اجترار طرح النّظريّات التوافقيّة لأنّه فقد قدرة المواجهة السياسيّة، لا بل قل إنّ النّاخب اللبناني قد نزع من يد هذا الفريق القدرة السياسيّة التي كان يتحلّى بها في انتخابات 2018.
من هذا المنطلق، يجب قراءة السياسة الدّوليّة تجاه لبنان بتأنٍّ كبير، ويكفي الإنزلاق إلى أتانين القحط والإنحطاط التي يريد محور إيران للبنانيّين أن يحترقوا بها. وبالطبع الغلوّ بالرهان على المجتمع الدّولي خاطئ أيضاً. وهذه المسألة التي يبرع فيها محور إيران بطريقته الساخرة حيث يسترجع مراراً وتكراراً المراحل التي لم يتجاوب فيها المجتمع الدّولي مع الخطّ السيادي.
وللتّاريخ، يجب ألّا ننكر هنا أنّ الوهن والتّراجع والتنازل الذي قدّمه بعض أركان فريق 14 آذار هو وراء هذه اللامبالاة الدّوليّة في القضيّة اللبنانيّة؛ لا سيّما في المرحلة التي تلت تنفيذ بند الانسحاب السوري من القرار 1559 بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري والتي تلتها محاولة لبننة منظّمة «حزب الله» ومعالجة قضيّتها معالجة محلّيّة.
هذه القراءة الخاطئة هي التي أدّت إلى تسوية الدّوحة والتسوية الرّئاسيّة بعدها وما نتج من هاتين التسويتين. وفي هذا السياق، لا بدّ من إعادة قراءة هادئة لتلك المرحلة لاستشراف آفاق الحلول للمرحلة القادمة. ولا يحاولنَّ أحد في هذا السياق إلقاء اللوم على أحد. فهذا كلّه لا ينفع. وما يجوز، وما يجب اليوم هو الاستفادة من تلك التجارب لنستطيع كلبنانيّين أحرار وسياديّين وكيانيّين خلق هذا الستاتيكو الجديد، على قاعدة المعالجة من المصدر.
إنّ إشكاليّة السيادة هي من طبيعتين أولى إقليميّة وثانية محليّة. وكلتاهما مرتبطتان بعضهما ببعض. ولا يمكن الاكتفاء بالمعالجات المحليّة لأنّها تصبح كمسكّنات طفيفة للورم السرطاني. الإنتخابات مهمّة جدّاً، لا بل ضروريّة للتأكيد على انتظام الحياة السياسيّة، ولكن بعد تثبيت هذا الانتظام ثمة ضرورة للانتقال إلى متابعة المواجهة مع المصدر. وبالطبع لا أعني هنا الذهاب إلى مواجهة النظام الإيراني. فنحن واقعيّون ولا نخوض حروباً تحريريّة عبثيّة للمقايضة على الكراسي والمناصب والمراكز.
من هذا المنطلق، لا ينتظرنَّ أحد من المجتمع الدّولي أن يقوم بالمواجهة السياديّة عن اللبنانيّين. لكن ما يجب قراءته هنا هو صياغة القرار الجديد 2650 الذي صدر للتجديد لـ»اليونيفيل» بموافقة روسيّا والصين اللتين وقفتا مع نصّ القرار الجديد الذي حافظ على مرجعيّة القرارات السابقة أي الـ 1559 و 1680 و1701. ورفضتا نصّ السلطة الإيرانيّة في لبنان الذي رفعته للإنقلاب على الشرعيّة الدّوليّة.
فضلاً عن التدخّل السعودي لصالح السياديّين مع فرنسا التي كانت ستسير مع هذه السلطة بالذات لتسيير مصالحها الخاصّة في إيران. وهذا ما يدحض النظريّة القائلة إنّ المجتمع الدّولي «مش فاضيلنا» والحرب الروسيّة – الأوكرانيّة هي همّه الأوّل. فالشرعيّة الدّوليّة أوضحت موقفها. ليست ضدّ استعادة السيادة اللبنانيّة، ولكن لن تواجِه عن السياديّين.
اليوم اليوم وليس غداً اللحظة الدّوليّة مؤاتية جدّاً. لذلك كلّه، على الفريق السيادي أن يعرف كيفيّة استغلالها انطلاقاً من تواجده في دول القرار. فالحديث اليوم لم يعد بالخفاء، بل صار «على المكشوف» والسؤال الإشكالي الذي يطرح على السياديّين ودُعاة التغيير الجدد وحدهم، وليس على مَن يواجهونهم، ما الذي يفعلونه لاسترجاع السيادة المخطوفة من إيران عبر منظمة «حزب الله» ؟
عامل الوقت واستنفاده لم يعد سلاحاً بيد السلطة الإيرانيّة في لبنان. فهي باتت تسابق الوقت لأنّها بأضعف حالاتها، وهي تسرّع الإنهيار لتفجّر الوضع اجتماعيّاً فتقود البلاد بعدها بحالة الفوضى المنظّمة. وقد يكون الفراغ الرئاسي مدخلاً تسعى إلى تحقيقه. فحذارِ تقديم هذه الفرصة لها على طبق من ذهب. المطلوب تضافر الجهود كلّها، وتوحيد الرّؤى كلّها في لبنان المقيم ولبنان المنتشر، للوصول إلى الهدف المشترَك عبر رئيس سيادي إنقاذيّ يقود المواجهة السياديّة محلّيّاً وإقليميّاً ودوليّاً لأنّ اللحظة مؤاتية للتغيير.