عقد اجتماع للنواب السنة في دار الفتوى بدعوة من مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان الذي استهل الجلسة بقراءة سورة الفاتحة على أرواح ضحايا القارب الذي غرق قبالة ساحل طرطوس.
وقال : “الحمدُ للهِ ربِ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على أنبياءِ ورسلِ اللهِ أجمعين، وعلى شفيعِنا ونبيِّنا وقدوَتِنا محمد خَاتمِ الأنبياءِ والمُرْسَلين، وعلى آلهِ وأصحابِهِ أجمعين، ومنْ تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين.
وتوجه الى النواب بالقول : “أشكُرُكم جميعاً على الحُضورِ إلى هذه الدَّارِ العَامِرَةِ بِكُم . لقدِ اعْتَادَتِ الدَّارُ على أنْ تَكونَ حَاضِرَةً وَمُؤثِّرةً في الأَحدَاثِ الوَطَنِيَّة ، التي تَمَسُّ الصَّالِحَ العامَّ لِلمُواطِنِين، وَكيفَ تُؤثِّرُ إيجاباً إلاّ بِكُمْ ، أنتمُ الذين يَنبَغِي أنْ تُمَثِّلُوا النَّاسَ بَعدَ انتخاباتٍ صَعبةٍ وَسَطَ هذه الكَارِثَةِ التي لم يَشْهَدِ الوَطَنُ مَثيلاً لها مِنْ قَبل. فنحن نَجتَمِعُ اليومَ لِهَدَفٍ هو أبعدُ ما يكونُ عَنِ الضِّيقِ الطَّائفِيِّ أوِ المَصلَحِيّ . لقد أردتُ جَمْعَ الشَّمْلِ على أهدافٍ وَطَنِيَّةٍ سامية . ونحن في الأصلِ أَهْلُ شُورَى وتعاوُن . فعلينا بِالوَحدَةِ مَهمَا اخْتَلَفَتْ آراؤنا ، وَطنُنا في خطر . ودَولتُنا في خَطَر. ومُواطِنُونا في أَقْصَى دَرَجَاتِ البُؤس. وَالمَسؤُولِيَّاتُ مُشتَرَكَة . وَأَردْتُ أَنْ نَكونَ يداً وَاحِدةً ، وَصَوتاً واحِداً فِي تَحقِيقِ مَا يَصبُو إليه النَّاسُ جميعاً ، مِنْ تَشكِيلِ حُكُومة، وَانْتِخَابِ رَئيسٍ جَديدٍ لِلجُمهُورِيَّة، لِمُعَالَجَةِ الأَزَمَاتِ التي يُعانِيهَا المُوَاطِنُ على المُستَوَيَاتِ كَافَّة، اِقتصادِيَّةً وَاجْتِمَاعِيَّةً وَمَعِيشِيَّةً وَتَنمَوِيَّة. ولا شكَّ في أنَّ هناكَ كَثِيرِينَ بَينَ السَّادَةِ النُّوَّاب، مِمَّنْ يُمكِنُ أنْ تَتَعَاوَنُوا وَإيَّاهُمْ ، على جَمْعِ الكَلِمَةِ على الرَّئيسِ الجَدِيدِ المُؤَهَّل. همِّي أنْ يكونَ لنا صَوتٌ وَاضِح، حَسْبَمَا هي تَقالِيدُنا وَأعْرَافُنا في تَشكِيلِ اللُّحمَةِ الوَطَنِيَّة ، في أَصعَبِ التَّحَدِّيَاتِ وَالظُّرُوف”.
أضاف : “لا يَخفَى عليكُمْ أنّ البَقَاءَ لِلأَوطَانِ وَالدُّوَل ، مَنُوطٌ بِفَعَالِيَّةِ مُؤَسَّسَاتِها الدُّستُورِيَّة ، وَعَلى رَأْسِهَا رِئاسةُ الدَّولة. فالرَّئيسُ هو رَمزُ البِلاد ، وَحَامِي دُستُورِها الذي عليه يُقْسِم؛ وأُشِيرُ هُنَا إلى الأَهَمِّيَّةِ الفَائقَةِ لِمَنْصِبِ رِئاسَةِ الجُمهُورِيَّةِ في لُبنانَ بِالذَّات، فَالرَّئيسُ المَسِيحِيّ، رَمزٌ وَوَاقِعٌ لِلعَيشِ المُشتَرَك، الذي يَقُومُ عليه النِّظَامُ الذي اصْطَلَحَ عَليهِ اللبنانيون. وَيَنظُرُ إليهِ العَرَبُ بِاعترافٍ وَتَقدِيرٍ لِلتَّجْرِبَةِ اللبنانية، لأنَّهُ الرَّئيسُ المَسِيحِيُّ الوَحِيد، في العَالَمِ العَرَبِيّ. إنّ رَئيِسِ الجُمهُورِيَّةِ في النِّظَامِ السِّيَاسِيِّ اللبنانِيّ، هو رَأْسُ المُؤَسَّسَاتِ الدُّسْتُورِيَّةِ القَائمَة. ولا يَنْتَظِمُ عَمَلُهَا وَلا يَتَوَازَنُ إلاّ بِحُضُورِه، مِنْ خِلالِ انْتِخَابِ مَجلِسِ النُّوَّابِ له. ولِضَرُورَاتِ انْتِخَابِ رَئيسٍ جَديد ، ينبغي الحِفاظُ في الفُرصَةِ الأَخِيرَةِ على وُجُودِ النِّظَامِ اللبنانِيّ ، وَسُمعَةِ لُبنانَ لَدَى العَرَبِ وَالدَّولِيِّين . فقد تكاثَرَتِ الأَزَمَات، وَتَكَاثَرَتْ الاستثناءَات ، وَتَكَاثَرَتْ حَالاتُ الغِيَابِ أَوِ الضَّعف ، أو الانْسِدَادِ في سَائرِ المُؤَسَّسَاتِ وَالمَرَافِق، بِحَيثُ دَخَلْنَا في وَضْعِ الدَّولةِ الفَاشِلة، وَنَحنُ سَائرونَ بِسُرعَةٍ بِاتِّجَاهِ اللا دَولَة؛ وَيُوشِكُ العَرَبُ وَالعَالَم ، أَنْ يَتَجَاهَلُوا وُجُودَ لبنان، بِسَبَبِ سُوءِ الإِدَارَةِ السِّيَاسِيَّةِ على كُلِّ المُستَوَيَات. لا بُدَّ مِنْ رَئيسٍ جديدٍ لِلجُمْهُورِيَّة، وَأنتُمُ المَسؤولون عن حُضُورِهِ أَو إحضَارِه ، وستكونون في طَلِيعَةِ المَسؤولين عَنْ غِيابِهِ لأيِّ سببٍ كان . لا بُدَّ مِن رئيسٍ جديدٍ يُحافظُ على ثوابتِ الوَطَنِ والدَّولة ، فَيَا أيُّها النُّوَّابُ الكِرام ، ساهِمُوا- وهذه مسؤولِيَّتُكُم – في التغيير، وفي استعادَةِ رِئاسَةِ الجُمهُورِيَّة ، لاحْتِرَامِها وَدَورِها بِالدَّاخِل، وتُجاهَ الخارج”.
وتابع المفتي دريان: “الرَّئيسُ الذي نُرِيدُهُ جميعاً مُوَاصَفاتُهُ وَاضِحَة، وَأنتُمْ جَمِيعاً تَعرِفُونَها أَكْثَرَ مِنّي . المُواصَفَاتُ هي:
أولاً : الحِفَاظُ على ثَوَابِتِ الطَّائفِ وَالدُّستُور ، والعَيشِ المُشتَرَك ، وَشَرعِيَّاتِ لُبنانَ الوَطَنِيَّةِ وَالعَرَبِيَّةِ وَالدَّولِيَّة . وَلا يُمكِنُ التَّفرِيطُ بها مَهمَا اخْتَلَفَتِ الآرَاءُ وَالمَواقِفُ السِّيَاسِيَّة ، لأنَّهَا ضَمَانَةُ حِفظِ النِّظَامِ وَالاسْتِقرَارِ وَالكِيانِ الوطني.
ثانياً : إنهاءُ الاشتباكِ المُصَطَنَعِ وَالطَّائفِيِّ والانقِسَامِيِّ بِشَأْنِ الصَّلاحِيَّات، وَالعَودَةُ إلى المَبدَأِ الدُّستورِيِّ في فَصلِ السُّلُطاتِ وتعاوُنِها.
ثالثاً : الاتِّصَافُ بِصِفاتِ رَجلِ العَمَلِ العَامِّ الشَّخصِيَّةِ والسياسية ، لأنّ رَجُلَ العَمَلِ العَامِّ – كما يقولُ عُلماءُ السِّيَاسَة- تَحكُمُهُ أخلاقُ المُهِمَّة، وأخلاقُ المسؤولية.
رابعاً وأخيراً : الاتِّصافُ بِالحِكْمَةِ والمَسْؤوليةِ الوَطنيةِ والنَّزَاهَةِ ، وبالقدرةِ على أن يكونَ جَامعاً للبنانيين ، والانصرافُ الكُليُّ مَعَ السُّلُطاتِ الدُّستُورِيَّةِ والمُؤَسَّساتِ والمَرَافِقِ المُتاحَة ، لإخراجِ البِلادِ مِنْ أزَمَاتِها، وَمَنْعِهَا مِنَ الانهيارِ الكامِل. لا بُدَّ مِنْ رئيسٍ بِهذِهِ الصِّفَات. أو نَتَفَاجَأُ بِاختفاءِ النِّظَامِ ثُمَّ الدَّولة!”.
وقال : “البلدُ يَمُرُّ بِمَخَاطِرَ كبيرة، مِمَّا يَقتَضِي مِنَّا تَعزِيزَ وَحدَةِ الصَّفِّ الإسلاميِّ وَالوَطَنِيّ ، وَنَدعُو إلى عَدَمِ المَسِّ بِصَلاحِيَّاتِ رِئاسَةِ الحُكومَة ، وَالعَمَلِ مَا بِوُسْعِنَا كي نُسَاعِدَ الرَّئيسَ المُكَلَّفَ لِتَسهِيلِ مُهِمَّتِه ، هذه مَسؤوليَّةٌ مُشتَرَكَة ، تَقَعُ على عَاتِقِ الجميع ، ونحْنُ نَتَوَسَّمُ ونَسْتَبْشِرُ خَيْراً بَتَشْكِيلِ الحُكومةِ العَتِيدَةِ بالسرعةِ المُمْكِنةِ وفي الأيامِ القَليلةِ المُقْبِلة ، لأنَّ وَطنَنَا لبنان يحْتَاجُ في هذه الظروفِ القَاسِيةِ والصَّعْبَةِ إلى حُكُومَةٍ كاملةِ الصَّلاحِيَّات ، لا إلى بقَاءِ حكومةٍ لتََصْرِيفِ الأعمال”.
وشدد على ان “لبنانُ لا يَقومُ إلا بِالتَّوَافُق ، وَلا خَلاصَ إلا بِوَحدَتِه ، بَعِيداً عَنِ التَّشَنُّجِ وَالخِطَابِ الطَّائفيّ ، وَالشَّحْنِ التَّحرِيضِيِّ .فَلْنَكُنْ لِوَطَنِنَا وَشَعبِنا لِيَبقَى وَطَنُنَا لنَا، وَيَثِقَ شَعبُنَا بِنَا. لا بُدَّ – وَبِإرَادَتِكُمْ وَأَصوَاتِكُمْ – مِنْ رَئيسٍ جديدٍ ، نَستَطِيعُ أنْ نَثِقَ بِهِ لِأمَانَتِه لِلدُّستُورِ واتقاقِ َالطَّائف، وَالعَيشِ المُشتَرَك ، وَهُوِيَّةِ لبنانَ العَرَبِيَّة ، وَعَلاقاتِهِ الدَّولِيَّة؛ والنَّزَاهَةُ أهمُّ صِفَاتِه. نحن نُرِيدُ رَئيساً لا يكونُ هُوَ جُزءاً مِنَ المُشكِلَة ، أو سبباً فيها. وشُكراً لِحُسنِ اسْتِمَاعِكُم، وَهياَّ لِلتَّشَاوُر ، لِتَجَاوُزِ الحَيرَةِ والاحْتِقَان، وَصَونِ وَطَنِنَا وَاسْتِقْرَارِنا، واسْتِقْلالِنَا، وَحَيَاةِ مُوَاطِنِينَا”.
وفي الختام عقدت جلسة مغلقة دار فيها نقاش بين النواب والمفتي دريان.
في السياق، قدم النائب جهاد الصمد مذكرة إلى الشيخ دريان خلال الإجتماع الموسع تضمنت الثوابت الوطنية التالية:
ـ أولاً : يهمني أن أؤكد موقفي الإيجابي من الميثاق الوطني والصيغة اللبنانية المتوافق عليهما بين اللبنانيين. وعلى الرغم من صحة تحليل “جورج نقاش” آنذاك في مقاله الشهير المعنون “سلبيتان لا يصنعان أمة” ( Deux negations ne font pas une nation)، (لبنان لا مقر ولا ممر)، فإنني أرى أن التوافق على السلبي خير من الاختلاف على الإيجابي ضمن صيغة العيش المشترك والشراكة الوطنية التي ارتضيناهما بعد الاستقلال، إذ انتقلنا من اتفاق مختلف عليه (الاستقلال) إلى اختلاف متفق عليه (الطائف)”.
ـ ثانياً : أعلن تمسكي باتفاق الطائف نصاً وروحاً، وإن كنت أعتقد أن التجربة والممارسة قد أثبتتا بعد أكثر من ثلث قرن حاجتهما الماسة لبعض التفسيرات والتعديلات والاضافات حرصاً على حسن سير المؤسسات الدستورية، ومبدأ فصل السلطات وإرساء دولة الحق والقانون. وما أخشاه أن يكون الخروج القسري لدولة الرئيس سعد الحريري هو تمهيد لسقوط الطائف ونشوء نظام سياسي جديد. لذا حرصت على تسمية دولته في الاستشارات النيابية الأخيرة رغم الخصومة السياسية، مؤكداً أن نكون مختلفين لا يعني أن نكون أعداء.
كما أنني أسمح لنفسي بالرغم من غيابه القسري عن المشاركة في الانتخابات النيابية فهو الأكثر حضوراً وتأثيراً في الشراكة الوطنية، إذ أنه ليس فقط الأكثر تمثيلاً لأهل السنة، بل أن مظلومية كبيرة قد لحقت به وبنا، من نتائجها المباشرة تشظي التمثيل السياسي لأهل السنة من ناحية، ومن ناحية ثانية تهميش دورهم في الحياة السياسية والشراكة الوطنية.
ـ ثالثاً : في القضية القومية: إننا نحن أهل السنة، أبناء القضية العربية نحب فلسطين نيابة عن كل الذين باعوها، لذا كانت القدس والأقصى وستبقيان في الوجدان العربي والإسلامي رغم كل محاولات التطبيع والخيانة.
رابعاً : في انحسار دور السنة في الإقليم والمنطقة العربية. يقول هنري كيسنجر وزير الخارجية الأميركي الأسبق والأشهر “إذا كانت عداوة أميركا مكلفة فإن صداقتها مميتة”.
لا شك أن السياسة العربية سيما بعض حكام دول الخليج العربي قد أصيبت بانتكاسات مباشرة على الأقل في العراق وسوريا واليمن. إن تحالف البلدان العربية مع الولايات المتحدة الأميركية في الصراع الدولي والإقليمي في المنطقة قد جر الويلات على شعوب المنطقة سيما في اليمن وسوريا والعراق، انعكست مباشرة على التوازن الداخلي الهش في لبنان وألحق بأهل السنة تراجعاً كبيراً. إذ لا يمكن أن يهزم “المشروع السني” في المنطقة من دون أن يتراجع في لبنان.
ـ خامساً : في مرجعية دار الفتوى. منذ عام 1922 وحتى الاستقلال وبعده وصولاً لعام 1967 وسنداً للنصوص القانونية والتنظيمية، كانت دار الفتوى هي المرجعية الدينية لكل المسلمين اللبنانيين أياً كانت مذاهبهم، وكان المفتي ولا يزال مفتي الجمهورية اللبنانية. أذكر ذلك لأشدد على المرجعية الدينية الشاملة لدار الفتوى ولصاحب السماحة مفتي الجمهورية اللبنانية، أما خلاف ذلك فهو أمر متعثر وغير قابل للتحقق لأن الدار هي دار تنظيم لحياة المسلمين الدينية والشرعية أما مرجعيتها السياسية فهي لرئاسة الحكومة ورئاسة مجلس الوزراء.
إنني وإن كنت أنتقد محاولة إخضاع دار الفتوى لسيطرة مراجع سياسية، فإنني وبنفس الشدة أنتقد تدخل دار الفتوى في الحسابات السياسية الضيقة وانحيازها إلى البعض، مؤكداً على دورها الديني والوطني والقومي عاملاً مع أهلي على استعادة الاعتدال السياسي لأهل السنة، لأن التفاهم بيننا هو تحمل حقنا بالاختلاف، وذلك لن يكون إلا إذا كانت الدار ومفتيها على مسافة واحدة من جميع أبنائها”.
وختم الصمد مذكرته بالقول: “صاحب السماحة، إن أثقل ما قد يحمله الإنسان كلمة حق أضاع فرصة قولها، ولأنني لا أجامل كذباً ولا أوافق خجلاً، ولأننا نحن الخسائر وليس الخاسرين، ولأن تحمل الاختلاف وحسن إدارته هو المدخل للتفاهم والتوافق، ولأنني أعتقد أن المطلوب أن يصل الدين – بالمعنى الأخلاقي – إلى أهل السياسة لا أن يصل أهل الدين إلى السياسة، ولأن بعض المنعطفات قاسية لكنها إجبارية لمواصلة الطريق، ولأن الحياة مدرسة، والعمر يتقدم والعقل ينضح والفكر يتسع والحق ينضح، فكيف لا نتغير جميعاً؟؟. هذا هو التحدي. والله هو المستعان”.