بقلم عقل العويط
أكتب ببساطة، بوضوح، بصدق، وأيضًا بفجاجة، ما قد يتراءى لي أنّه الكلام الأخير الذي يقوله غريقٌ في “بحر الشمال اللبنانيّ”، قبل أنْ يسلّم الروح، لحظةَ يلفظ أنفاسه الأخيرة بعد أنْ تمتلئ رئتاه بالماء المالح، وتخور قواه، ويتمدّد جسمه مرتخيًا، وتزوغ عيناه: ملعونٌ أبًا عن جدّ، هو ونسله والسلالة، وأولاده، وأحفاده، وأحفاد أحفاده، وكلّ مَن يشدّ مشدّه، وإلى أبد الدهر، جميع مَن جعلنا على هذا الهوان، على هذا الذلّ، على هذا اليأس، حيث بتنا نطلب قشّةَ الحياة، وهمَ الحياة، كيفما كان أينما كان، عارفين أنْ لا حياة كريمة لنا بعد الآن.
أكتب أيضًا بانسحاقٍ كلّيّ، بغضب، من دون أنْ أتباهى بادّعاء الكفر، أو التجديف، أو النيل من “العزّة الإلهيّة” ( لستُ معنيًّا بهذه الاستعراضات ) : أين أنتَ يا “الله” ؟ قل لي فقط أين أنت؟ أين أنت؟ وقل لي: ألا ترى هذا الشمال المألوم الموجوع المذبوح في فؤاده في يومه في مصيره، وكيف تبحر مراكب الموت من شواطئ هذا الشمال تحديدًا، حيث بات يستحيل على المرء أنْ يشاهد طفلًا يزقزق في حضن أمّه، أنْ يرى نظرةً خضراء في عين، أنْ يلمح ابتسامةً أكولةً، أنْ يخترع أو يتوهّم ضوءًا، أو يدًا شهيّةً تلقي التحيّة، أو قلبًا بلبلًا يهتف صباح الخير مساء الخير أيّها الناس أيّها العالم.
أكلّ هذا الأسى، أكلّ هذا الموت، من أجل أنْ لا تسقط شعرةٌ واحدةٌ من رأس هذا الوحش، هذا النظام السياسيّ، هذه العصابة، هذه المافيا، هؤلاء القَتَلَة، الذين يتدبّرون – الآن – كيف ينصّبون أحدهم رئيسًا فوق جثّة جبل لبنان، فوق جثّة لبنان كلّه، من بقاعه إلى البحر، من شماله إلى الجنوب، إلى الجنوب خصوصًا، حيث ما يُفترَض أنّه ملعب البطولة القصوى، والكرامة القصوى ؟
كان بودّي ألف مرّة أنْ أفقد العقل، أنْ أُجَنّ، أنْ أُصاب بالنسيان، بالخرف، أو أنْ أموت، قبل أنْ أُجبَر على أنْ أكون شاهدًا بلا حول لأطفالٍ غرقى، لنساءٍ حبالى، لأحلامٍ مجهضة، في “بحر الشمال اللبنانيّ”، يتلجلجون فوق صفحة الماء، كأنّهم لقطةٌ مأسويّةٌ من مشهدٍ افتراضيٍّ قياميّ.
أقول “بحر الشمال اللبنانيّ” من باب تسمية الكلّ باسم الجزء. لم يعد ثمّة مكانٌ في لبنان يليق بالكرامة، بكرامة العيش والحياة والحرّيّة.
لا أُلقي مسؤوليّة ما يجري على “غيب”، ولا على “إله”، ولا على “سماء”، ولا على “آخر”، ولا على “عدوّ”، ولا على “صديق”.
بل على نفوسي. بل على نفوسنا.
ماذا ننتظر، ماذا تنتظرون أيّها الغرقى، أيّها الموتى، أيّها المخصيّون، البلا خيال (هل أقول البلا شرف؟)، لكي تقلبوا هذه الطاولة الجهنّميّة ؟!
وأنتم أيّها الرافضون المنتفضون الثوّار، ألا تزالون تنتظرون التغيير من الغيب الأعمى، من الخواء، من العدم، أو من “مجلس العصابة الرهيب”، الذي يضمّ بعضًا من أبشع ما أنتجته البشريّة من وحوش السياسة والمال والشأن العام ؟
لا تضيّعوا الوقت القليل المتبقّي. كلّ ما يجري هو سمسراتٌ وصفقاتٌ وحلولٌ، كالسمسرات كالصفقات كالحلول المتداولة في الأروقة في الكواليس في المجالس، وهو مداولاتٌ حول مشاريع رؤساء كمشاريع الرؤساء هؤلاء، الذين أقلّ ما يقال فيهم إنّهم عبيد هذه العصابة، وخدّامها، وأدواتها، وماسحو صبابيطها، ولاحسو مؤخّراتها، في الداخل والخارج.
“ليالي الشمال الحزينة” ؟ الـ “نعم” لا تكفي، يا سيّدتي. كلّ ليالي لبنان حزينة. كلّ لبنان حزينٌ وعن بكرة أمّه وأبيه.
“من شو خايفين؟ ” ، “شو بدّو يصير أكتر ممّا عم يصير ؟”
أقلبوا هذه الطاولة على “مجلس العصابة الرهيب”. قولوا، بهبّةٍ واحدة، للداخل وللخارج معًا وفي آنٍ واحد: لا نريد حلولًا كهذه الحلول. لا نريد رئيسًا كمشاريع الرؤساء هؤلاء. لم نعد نريد هذه العصابة. ولم نعد نريد هذا الموت.
في اللحظة التي “يرى” فيها الغريق الموت ( أكرّر : من باب تسمية الكلّ باسم الجزء )، قبل أنْ يسلّم الروح، لحظةَ يلفظ أنفاسه الأخيرة بعد أنْ تمتلئ رئتاه بالماء المالح، وتخور قواه، ويتمدّد جسمه مرتخيًا، وتزوغ عيناه: ملعونٌ أبًا عن جدّ، هو ونسله والسلالة، وأولاده، وأحفاده، وأحفاد أحفاده، وكلّ مَن يشدّ مشدّه، وإلى أبد الدهر، جميع مَن جعلنا على هذا الهوان، على هذا الذلّ، على هذا اليأس، حيث بتنا نطلب قشّةَ الحياة، وهمَ الحياة، كيفما كان أينما كان، عارفين أنْ لا حياة كريمة لنا بعد الآن.
ويقول لنا هذا الغريق : إمّا أنْ يكون الحلّ مشرّفًا، والرئيس مشرِّفًا، وإمّا من بعد حمار لبنان لا ينبت حشيش. والسلام.