بقلم د. ميشال الشماعي
درجت العادة في البلدان العربيّة ذات النسيج المجتمعي التعدّدي كالعراق ولبنان وغيرها من الأمصار العربيّة، على التوافق السياسي قبل اتّخاذ أيّ خطوات سياسيّة مصيريّة. وذلك لتلافي الصدامات ذات الطبيعة الطائفيّة أو الإثنيّة التي قد تنزلق أحيانًا إلى صدامات دمويّة.
وانعقاد البرلمان العراقي من دون هذا التوافق السياسي دفع بأنصار التيّار الصدري إلى التظاهر في ساحة التحرير في بغداد. مع العلم بأنّ العراق يشهد مأزقًا سياسيًّا شاملاً منذ الانتخابات التشريعية في أكتوبر/تشرين الأول 2021، في ظل عجز التيارات السياسيّة الكبرى عن الاتفاق على اسم رئيس الوزراء المقبل وطريقة تعيينه.
وتمّ استغلال هذه الأوضاع التي بدت خارجة عن السيطرة لإطلاق صواريخ على المنطقة الخضراء حيث توجد مبان حكومية وبعثات أجنبية، دون وقوع خسائر ودون أإعلان أي جهة مسؤوليتها. ما حدا برئيس الوزراء مصطفى الكاظمي إلى دعوة قوّات الأمن العراقيّة لملاحقة مطلقي هذه الصواريخ.
وبعد الدعوات التي وجّهها رئيس التيار الصدري السيّد مقتدى الصدر، انسحب أنصاره من ساحة التحرير وجسر الجمهوريّة، وأعيد فتح الطريق الذي يمرّ في تلك المنطقة بعدما حاولوا اقتحام الحواجز الأمنية لمنع استئناف جلسات البرلمان المنعقدة للتصويت على استقالة رئيس البرلمان، وانتخاب نائب للرئيس.
من جهة أخرى، دعا الحلبوسي في بيان صحفي إلى ضرورة وجود حل سياسي شامل “يتحمّل الجميع فيه مسؤولياته وما يلقى على عاتقه أمام الشعب”.
انتحار سياسيّ
وللبحث في آخر المستجدّات السياسيّة في الساحة العراقيّة كان لموقع جسور عربيّة حديث مع الصحافي العراقي ياسر الحمداني الذي لفت إلى ” أنّ انعقاد جلسة النواب من قبل الإطار التنسيقي وحلفائه يوصف بالانتحار السياسي لما سبقه من إجراءات أمنيّة تمثّلت بإغلاق الطرقات الرئيسيّة في بغداد والمنطقة الخضراء والجسور.”
فبحسب الحمداني ” هذه مسرحيّة كان المقرّر فيها استقالة الحلبوسي والخروج من البرلمان، لكنّ 235 نائبًا جدّدوا الثقة له بينما 13 فقط صوّتوا على قبول هذه الاستقالة. فبقي محمّد الحلبوسي رئيسًا للبرلمان كما تمّ انتخاب نائب الرئيس. كل ذلك في مشهد لم يخلُ من العنف والمشاكل .”
ويرى الحمداني أنّ” التيار الصدري لن يسكت عمّا يقوم به الإطار وحلفاؤه من تشكيل للحكومة. فمحمّد السوداني مرفوض من قِبل التيّار الصدري الذي لم يدعُ أنصاره للنّزول إلى الساحات لأنه اعتزل العمل السياسي.” وبالنسبة إلى الحمداني فإنّ ” أنصار التيّار انتشروا في عدد كبير من أحياء بغداد والبصرة والناصريّة ومدينة العمارة احتجاجًا على ما قام به الإطار التنسيقي. ”
ولا بدّ من الإشارة هنا إلى الانقسام العامودي في الشارع العراقي بين الإطار والتيّار، هو سبب جمود عجلة الحياة السياسيّة، لا سيّما وأنّه بات واضحًا بأنّه انقسام بين مشروعين متناقضيَن بالكامل. تمامًا كما يحدث في لبنان.
فالمشروع المدعوم من الثورة الإسلاميّة في إيران يقوم على تغليب فئة من العراقيّين بهدف إحداث تغييرات تكوينيّة في جوهر وجود الدّولة العراقيّة. والخطورة في هذا الموضوع تكمن في نجاح فريق الإطار بإحداث التغيير الدستوري في حال نجح بالسيطرة المطلقة على مفاصل المؤسّسات الدستوريّة في الدولة العراقيّة. أمّا التيّار الصدري فيحاول جاهدًا العمل على انتظام الحياة السياسيّة الدستوريّة، لكنّه أخرج نفسه من اللعبة السياسيّة مفضّلاً البقاء في الشارع مع أهله وناسه.
الرّدّ آتٍ من التيّار على الإطار
من هنا، كشف الحمداني لموقع جسور من مصادر مقرّبة من التيار الصدري بأنّ “التيّار لن يسكت عمّا حدث فهؤلاء الذين اجتمعوا لتشكيل الحكومة لن يهنؤوا.” وتابع الحمداني محذِّرًا بأنّنا “سنكون أمام مشاكل كبيرة تنتظر الإطار. وثوّار تشرين يعتزمون الخروج بتظاهرة كبيرة في بغداد حيث تمّ توزيع منشورات بشكل كثيف في شوارع بغداد وبعض المدن تدعو العراقيّين للمشاركة في هذه التظاهرات.”
فعلى ما يبدو ممّا كشفه الحمداني لجسور بأنّ المشهد السياسي والأمني هو مشهد محبط جدًّا، وهو أي الحمداني، لا يعتقد بأنّه “ستشكّل حكومة في ظلّ هذه المعطيات التي تعصف في العمليّة السياسيّة حيث تزداد تعقيدًا فوق تعقيد.”
كما كشف الحمداني أيضًا لموقع جسور بأنّ “المظاهرات التي يعتزم التشرينيّون إقامتها لا زالت قائمة دعواتها. وهي ستكون يوم 1/10 حيث من الممكن انضمام التيّار الصدري لهذه التظاهرة.” وأشار الحمداني بأنّ “الجسور ما تزال مغلقة كجسر الجمهوريّة وغيرها تحسّبًا لوقوع أعمال عنف.” حيث يرى بأنّ “هذا ما سيزيد الأمر تعقيدًا وسيؤدّي إلى عدم تشكيل الحكومة حيث هنالك خلافات جمّة داخل الإطار نفسه حول المناصب كمنصبيّ رئيس الحكومة والجمهوريّة التي تمّ إبعاد التيّار الصدري عنها.” وأكّد الحمداني بأنّ التيار الصدري لن يسكت عمّا يحصل.
ما حصل مدروس ومعدّ سلفًا
ويلفت الحمداني في حديثه لجسور بأنّ “هذا السيناريو الذي حدث إبّان الجلسة هو سيناريو معدّ مسبقًا لهذه العمليّة التي تزامنت مع قصف لعدد من المناطق في إقليم كردستان للمدفعيّة التركيّة والصاروخيّة، إضافة إلى القصف الذي شنّته الطائرة التي استهدفت مقرّات المعارضة الكرديّة في الإقليم، حيث سقط ضحيّتها 9 أشخاص وأكثر من 30 جريح.”
فبرأيه “ما حصل هو لإشغال الرأي العام عمّا يحدث في المنطقة الخضراء بالاتّفاق ربّما مع الجارة إيران.” أمّا بالنسبة إلى ردّ الدولة العراقيّة على هذا القصف فيلفت الحمداني إلى أنّ ” الخارجيّة العراقيّة لوّحت بالتنديد والاحتجاج، إلّا أنّ هذا الردّ لم يكن على المستوى المطلوب. ” ويختم الحمداني حديثه لجسور منتقدًا البيان الذي صدر عن الخارجيّة العراقيّة ويعتبره ” خجولاً لا يرقى إلى الوضع الحالي.”
ويؤكّد الحمداني إلى أنّ كلّ ما حدث هو سيناريو معدّ له سلفًا. وحذّر الحمداني من القادم من الأيّام، حيث يرى بأنّه “سيكون أسوأ بكثير على جماعة الإطار التنسيقي. وربّما لن تتشكّل الحكومة في ظلّ هذا الصراع المحتدم بين التيّار والإطار.”
في المحصلة
لا تبدو الأجواء متفائلة في الساحة العراقيّة. فالمواجهة مفتوحة على مصراعيها بين الإطار والتيّار. وعلى ما يبدو أنّ الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران ليست في وارد المساومة حول مصير حلفائها إن كان في العراق أو في لبنان أو حتّى في اليمن وسوريا، برغم المفاوضات المتعثّرة التي تخوضها مع الغرب.
ولا يبدو أنّ النفس الغربي التفاوضي طويل جدًّا بل إنّ هذه المفاوضات باتت بحكم الميتة لا سيّما مع انشغال السلطات الإيرانيّة بقمع ثورة الحجاب التي اندلعت على إثر قتل إبنة ال 22 عامًا مهسا أميني في 16 أيلول/سبتمبر المنصرم. كذلك مع انشغال الغرب بمواجهة روسيا من جهة والصين من جهة أخرى.
فهل تكون الأضاحي التي ستقدّمها إيران للغرب خارج حدودها لتحافظ على أمنها الدّاخلي، أو قد تزداد حدّة القمع الداخلي للحفاظ على نظام الملالي؟ أمّ أنّ الأوان قد فات ويبقى تحديد ساعة الصفر نحو الجمهوريّة الجديدة لتتحرّر العواصم الأربعة من الهيمنة الإيرانيّة ليكون العراق المدخل إلى الشرق الأوسط الجديد؟