بقلم د. ميشال الشماعي
طوى رئيس مجلس النوّاب جلسة انتخاب رئيس الجمهوريّة الرابع عشر بعد الطائف وهو الذي أدار عمليّة انتخاب أربعة رؤساء بعد الطائف. وعند كلّ استحقاق رئاسي تكثر الاجتهادات الدّستوريّة، ولكن يبقى الثابت الوحيد الدّستور والأعراف التي اعتادها اللبنانيّون. ولا يمكن تجاوزها بحجّة عجز المجلس النيابي عن إنتاج رئيس سواء أكان بالتوافق أم بالأكثريّة المطلقة. فالتجاوزات السابقة التي جُدِّدَ للرّؤساء أو انتُخِبَ موظّفو الفئة الأولى (قادة الجيش اللبناني) بواسطتها لمنصب رئيس الجمهوريّة صحيح أنّها حلّت أزمة في تلك المرحلة إلّا أنّها أفقدت الدّستور هيبته.
إدارةٌ رشيدةٌ، أمْ عَ «البلدي» ؟
واللافت في إدارة الرئيس برّي جلسة 29 أيلول حنكته وطرفَته اللتان اعتادهما اللبنانيّون وينتظرونهما دائماً عند كلّ استحقاق وهو عرف كيفيّة توظيف هاتين المَلَكَتين طوال فترة تولّيه سدّة رئاسة المجلس. ويختلف الدّستوريّون كثيراً حول بعض الطرائق المعتمَدَة في إدارة الجلسات وفي ما إذا كان يحقّ لرئيس مجلس النواب أن يكون طرفاً سياسيّاً، وهو المفترض أن يكون حكماً مثله مثل رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة. وفي هذا السياق يلفت الخبير الدّستوري الدكتور سعيد مالك في حديث لـ»نداء الوطن» إلى أنّه «من الثابت أوّلاً أنّ رئيس مجلس النوّاب هو نائب انتُخِبَ من قبل قاعدته من جهة، ومن بعدها انتُخِبَ رئيساً لمجلس النوّاب فليس مفترَضاً عليه أن يكون طرفاً بل حكماً مثله مثل رئيس الجمهوريّة وحتّى رئيس الحكومة». ويؤكّد مالك الدّور السياسي لرئيس المجلس ولكن «كونه رئيس هذا المجلس فهو له دور إداري يحكمه النظام الدّاخلي لمجلس النوّاب».
أمّا المحامي حسّان الرّفاعي فيوضح أنّ «اللعب على الكلمات بتفسير المادّة 49 والتفرقة بين «الجلسة» و»الدّورة» غير مقبول إذ لا يمكن في كلّ مرّة أن نبدأ من جديد، أوّل دورة لجسّ النبض وإن لم تعجبنا النتيجة نطيّر النصاب ونرفع الجلسة».
فبالنسبة إليه «هذه الورقة يجب ألا تكون بيد رئيس المجلس الذي يجب أن يكون على مسافة واحدة من الجميع، وعليه أن يمارس مبدأ الحياد الإيجابي في إدارته جلسة الانتخاب، لا أن يستعمل موقعه وسلطته في إدارة الجلسات، وفي تحديد مواعيدها ليستفيد منها سياسيّاً، ولو عن نيّة حسنة كما يقول ويدّعي بهدف التوصّل إلى توافق».
مسألة النصاب وطريقة الإنتخاب
أمّا بالنسبة إلى موضوع النصاب وإذا كان يجوز لرئيس المجلس أن يبقي الجلسات مفتوحة من دون إقفالها، لا سيّما أنّ كتلتي الوفاء للمقاومة والتنمية والتحرير هما اللتان انسحبتا من الجلسة، أي عمليّاً قامتا بتطيير نصاب الدّورة الثانية التي تجيز انتخاب الرئيس بالأكثريّة المطلقة، فيوضح مالك أنّ «المادّة 49 من الدّستور تشير إلى أنّ هناك جلسة واحدة لانتخابات رئاسة الجمهوريّة ولكن بدورات متتالية ومتواصلة حتّى انتخاب رئيس. بالتّالي عملاً بالنّصّ الدستوري وسنداً إلى العرف الدّستوري يجب أن تبقى الجلسات مفتوحة، ويجب أن يبقى مجلس النوّاب بحالة انعقاد دائم بجلسات ودورات متتالية وصولاً إلى انتخاب رئيس جمهوريّة».
من هذا المنطلق، يوضح مالك في حديثه كيف يمكن أن يُنتَخَب الرئيس بالنصف زائداً واحداً في الجلسة الثانية لا سيّما أنّ دولة الرئيس بري ترك الجلسة مفتوحة، فيشير إلى أنّه «في جلسات انتخاب رئيس الجمهوريّة يجب أن يتوافر نصاب 86 نائباً أي الثلثين ليتمكّن رئيس مجلس النوّاب من افتتاح الجلسات». وهذا ما حقّقه النوّاب اللبنانيّون الذين قاموا بواجبهم الانتخابي بحسب الدّستور. وبحسب مالك فإنّ الرئيس برّي «سيعيد حكماً الدّورة الأولى كما فعل مع الرئيس عون، ومن بعدها إلى الدّورة الثانية. ففي الدّورة الأولى يجب أن ينال أكثريّة الثلثين أي 86 صوتاً أمّا في الدورة الثانية فالغالبيّة المطلقة أي 65 صوتاً ويزيد».
ويأسف الرفاعي جدّاً للطريقة التي حصلت بها هذه الجلسة. فبالنسبة إليه «إنّ رئيس الجمهوريّة ليس أرنباً يُسحَبُ في اللحظة الأخيرة من كمّ الساحر. فهذا رئيس الجمهوريّة، وهو حكم بين اللبنانيّين كلّهم، وساهر على تطبيق الدّستور لمدّة ستّ سنوات».
ويؤكّد الرفاعي أنّ «الانتخابات هي انتخابات. ولا مجال للتوافق. فمَن ينجح في الدّورة الأولى ينجح بثلثي الأصوات، وبما أنّ هذا الأمر صعب، ففي الدّورة الثانية ينجح مَن يحصل على الأغلبيّة المطلقة أي 65 صوتاً». فالمسألة واضحة جدّاً بالنسبة إليه وقد نصّ عليها الدّستور بشكل جليٍّ في المواد ذات الصلة بالموضوع.
ويلفت الرفاعي إلى أنّه «لا يمكن في كلّ مرّة أن نبدأ من جديد، أوّل دورة نجسّ النبض، وإن لم تعجبنا النتيجة، نطيّر النصاب ونرفع الجلسة». وهو يرى في مسألة إعادة العمليّة الانتخابيّة من مرحلة الصفر عبر اللجوء في كلّ جلسة إلى دورة أولى قبل الانتقال إلى الثانية عمليّة تحكّم واضحة من قبل رئيس مجلس النوّاب يمكنه من خلالها «كشف نوايا وتوجّهات النوّاب ليبقي له الكلمة الأخيرة وليتحكّم بالجلسة ككلّ، وربّما بنتيجتها. وفي حال لم تكن النتيجة كما يريدها هو وفريقه السياسي يقوم بتهريب النّصاب وتطيير الجلسة». فبالنسبة إلى الرفاعي، «بعض من النواب المعارضين قد ساهم بشكل أو آخر في عمليّة تأجيل الجلسة». ويؤكّد الرفاعي حول موضوع النّصاب أنّ «اشتراط نصاب الثلثين لكلّ جلسات الانتخاب مهما تكرّرت، هو سبب أكيد للتعطيل، أو لفرض الرئيس وفقاً لتوافقات من الدّاخل أو من الخارج».
مع الملاحظة وفق رؤيتنا المتواضعة في مواكبة الأداء السياسي لبعض من اعتدنا ممارساتهم السياسيّة في مؤسّسات الدولة طيلة أكثر من ثلاثة عقود، إنّ هذا الرأي الدستوري يؤكّد أحقّيّة انتخاب رئيس الجمهوريّة من الدّورة الثانية بالنصف زائداً واحداً. وقد يكون ما قام به الرئيس برّي هو لتجاوز الدّورة الأولى في دعوته الثانية لانتخاب رئيس جمهوريّة، فيبدأ مباشرة بالدّورة الثانية. وهذا ما قد يخلق جدلاً دستوريّاً، إن حدث، مع العلم أنّ البلاد بغنى عن إضافة أزمة دستوريّة جديدة إلى الأزمات التي تعصف بها.
استغلال الخلل وتوظيفه سياسيّاً
ويسجّل الرّفاعي دهشته ممّا حدث في جلسة 29 أيلول. فبالنسبة إليه «هذه الجلسة كانت بمثابة جلسة رفع عتب أمام الرأي العام المحلّي والدولي. لم تأتِ أغلبيّة النواب لانتخاب رئيس بل لجسّ النبض بانتظار كلمة سرّ من هنا أو تسويات من هناك».
ويرى الرّفاعي في هذا الاستغلال تشابهاً مع طريقة تشكيل الحكومات عبر دعوة رئيس الجمهوريّة للإستشارات الملزمة حيث يقوم بترتيب مواعيد النواب والكتل ليكشف آراءهم السياسيّة في موضوع التشكيل. فهذه كلّها بالنسبة إليه «هرطقات على الطريقة اللبنانيّة، وعلى السادة النوّاب كلّهم أن يذهبوا إلى المجلس النيابي لممارسة واجباتهم عوض انتظار التسويات والتوافقات». ويختم الرّفاعي بملاحظة هذا الخلل الإداري في موضوع الجلسات، ويعيد ذلك إلى قانون الانتخاب الذي برأيه «أبعد المواطن عن المؤسّسات ودفعه إلى الشارع. فأوّل ما يجب القيام به هو التوصّل إلى قانون انتخابات يعيد النّاس إلى مؤسّسات الدّولة والحياة السياسيّة، ويخرجها من الشارع الذي لم يوصل أحداً إلى هدفه الحقيقي نظراً لتعقيدات التركيبة اللبنانيّة. وبذلك تصبح نسبة الاقتراع مرتفعة جدّاً عوض أن تكون أقلّ من 50%».
في المحصّلة
لا الوضع السياسي – الوطني يحتمل، ولا الحالة الاقتصاديّة – الإجتماعيّة التي باتت تحكم اللبنانيّين بالتساوي، تسمح بالمزيد من التجاوزات للدّستور الذي يجب ألا يبقى وجهة نظر قابلة للإجتهادات والتفسيرات التي غالباً ما تكون غبّ الطلب للفريق صاحب الغلبة والقدرة السياسيَّتين. الدّستور هو دستور وواجب احترامه وتطبيقه لا البحث في كيفيّة التحايل والتلاعب على النصوص لتحقيق المصالح الخاصّة. ولمرّة واحدة وأخيرة، إمّا أن يتمّ احترام الدّستور وإدارة الحياة السياسيّة في مؤسّسات الدّولة كما ينصّ في موادّه، وإمّا ستتحوّل الجمهوريّة اللبنانيّة بأكملها إلى وجهة نظر وجوديّة قد لا تعود موجودة!