بقلم زكي طه
رغم صفات “القداسة” التي يواصل أنصار قادة الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان وسم زعمائهم بها دفاعاً عنهم، إلا أن كثرة الصفات التي تجمع بين هؤلاء تجعلهم وكأنهم في مباراة تنافسية للفوز بأكبر عدد من التوصيفات والتعريفات، التي تدلل ليس على مستوى انعدام المسوؤلية الانسانية والوطنية بكل معانيها وحسب، إنما أيضاً حول مدى سوء سياساتهم وأدائهم الاحتيالي في ممارسة السلطة. يؤكد ذلك ليس ما تردده ألسنة مواطنيهم من أوصاف، بل ما تتضمنه التقارير والتصريحات الصادرة عن الجهات الدولية والأممية، والتي لا تحرك ساكناً لدى أي منهم.
وإذا كانت اطراف الخارج الدولي والاممي تعبر عن مصالحها الخاصة، فليس مستهجناً ألا تختلف عنها قوى الطبقة السياسية الحاكمة، التي لا ترى سوى مصالحها الفئوية المستندة إلى مواقعها الطائفية المتنازعة، وما يقع في امتدادها من سياسات وممارسات. ما يعني أن الروابط السببية بين ازدحام التطورات والاحداث على نحو متواصل، بشأن ملفات الوضع اللبناني من شتى بواباته الداخلية والخارجية هي أكثر من أن تحصى.
ولذلك لا يعود مستغرباً أن يجمع المشهد اللبناني بين تزامن كوارث الهجرة عبر قوارب الموت هرباً من الجحيم، في موازاة تزايد أعداد ضحايا الاشتباكات العبثية المتنقلة، وعمليات الخطف والانتحار، في ظل الفوضى الأهلية والأمنية، وفلتان أسعار الخدمات الاساسية في دولة المافيات من دون حسيب أو رقيب.
وللتغطية على احتدام الخلافات حول تقاسم مواقع السلطة، كان لا بد من أن يتحول تشريع موازنة إفقار اللبنانيين وسرقة مدخراتهم ونهب المال العام وحماية المافيات إنجازاً دستورياً. وأن يصبح الفراغ الحكومي ضمانة لحقوق الطوائف، والتهديد بتجاوز الدستور والانقلاب عليه سبيلاً لحماية الصلاحيات الرئاسية والحكومية، وتبرير الاصطفافات المذهبية بقيادة المرجعيات الطائفية.
وبما أن التنافس بين أهل الحكم لتوظيف صفقة الترسيم الموعود للحدود البحرية مع العدو الاسرائيلي، غير كاف للتعمية على أهدافها المشبوهة، وأكلافها واهداف المستفيدين منها، أو للتغطية على مفاعيل تفريط الطبقة السياسية بحقوق البلد وثروته النفطية. ولذلك كان لا بد من إطلاق موسم جديد لأهازيج “الانتصار”، للجمع بين حدث “الترسيم” وانجاز “التحرير” في ملفات الصراع الطائفي على السلطة والمغانم.
وما إعطاء الأولوية لتشكيل الحكومة الجديدة، سوى تأكيد على تسليم قوى السلطة بأن الاستحقاق الدستوري المتعلق بانتخاب رئيس جديد للجمهورية، هو في حكم المؤجل إلى إمدٍ غير منظور، نظراً لعدم توافر شروط تحققه راهناً.
أما استعصاء تعديل الحكومة المستقيلة مخرجاً لأزمة تشكيلها، فمرده شروط العهد بشأن مهامها وجدول أعمالها، وصيغة توازناتها، وموقع تياره السياسي فيها. الامر الذي وضع الرئيس المكلف في موقع الرافض لها، مدعوماً من جهات عدة أبرزها رئيس المجلس النيابي ورئيس الحزب الاشتراكي.
وأمام إصرار العهد وتياره على مطالبهما، والتهديد بقلب الطاولة بوجه الجميع، وتعريض البلد لمرحلة جديدة من الفوضى الدستورية، فإن احتمال تشكل الحكومة لا يزال مرتبطاً بحاجة حزب الله لوجود حكومة تتحمل المسؤولية، وتوفر التغطية لدوره وسياساته الفئوية وارتباطاته الاقليمية، في مواجهة محاولات بعض الداخل والخارج تحميله منفرداً المسؤولية عن الانهيارات التي يتشاركها مع سائر أطراف السلطة.
غير أنه وفي سبيل الخروج من مأزق تشكيلها المتعسر، فإن الحزب لا يبدو أنه بوارد ممارسة إية ضغوط، يمكن لها أن تؤذي علاقته مع العهد المنتهية ولايته، أو تهدد استمرار علاقته مع تياره، بصرف النظر عن مخاطر استمرار حكومة تصريف الاعمال في ظل الفراغ الرئاسي المرجح..
وإزاء هذا الواقع المستدام بفعل أداء اطراف السلطة التي تحكم البلد وتتحكم بحياة ومعيشة اللبنانيين المغلوبين على أمرهم، وهم الذين يواجهون تداعيات الانهيار الاقتصادي والمالي المتوالي فصولاً، معطوفاً على مفاعيل الانهيار المتمادي في مؤسسات الدولة وادارتها وأجهزتها على جميع المستويات، ومع اختلال التوازنات الداخلية المرتبطة بأزمات المنطقة، وعجز قواها المزمن عن إيجاد الحد الأدنى من التسويات لأزمات البلد والحكم فيه مدخلاً للإنقاذ، فإنه لا يعود مفاجئاً أن تتصاعد التدخلات الخارجية والاممية، وأن ترتفع مخاطر التلاعب بأوضاع البلد، في ظل رفض الطبقة السياسية تحمّل مسؤولياتها الاصلاحية والدستورية.
وفي هذا السياق فإن الاسباب التي تجعل الاستحقاق الرئاسي في حكم المؤجل، هي أكثر من أن تحصى، نظراً لاتساع مستويات التداخل الدائم، المستمر والمتجدد بين العوامل الداخلية والمعطيات الخارجية، والتي لا يفيد في تغطيها تكرار البيانات بشأن أهمية وضرورة تنفيذ الاستحقاق في موعده، ولا الاكثار من التحذيرات حول مخاطر عدم حصوله. يؤكد ذلك ما شهدته جلسة المجلس النيابي لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، من محاولات إثبات قدرة سائر الكتل النيابية على إتقان السياسات الاحتيالية، وكأنهم يمارسون لعبة “الثلاث اوراق” أو لعبة “الكشاتبين”، والتي يسعى ابطالها لضمان الربح، فيما الخاسر هو المتورط قسراً أو طوعاً في اللعبة، كما هو حال نواب التغيير أو اكثرية اللبنانيين.
وما جرى لا يجد تغطيته في مواقف الكتل النيابية من الاستحقاق الرئاسي وعجزها عن التوافق على انتخاب رئيس وحسب، بل أيضاً في المواقف الدولية والاقليمية بشأن لبنان وما يحتشد فيه وحوله من أزمات ومشكلات متفجرة. وفي هذا السياق كان البيان الاميركي الفرنسي السعودي، الذي رسم ما يشبه خارطة طريق للتعامل مع اوضاع البلد، سواء تعلق الأمر بالاستحقاق الدستوري ومواصفات الرئيس الجديد، أو لجهة التشديد على الالتزام باتفاق الطائف لقطع الطريق امام محاولات تعديله واعادة النظر بمضمونه، أو لناحية تكرار المطالبة بتنفيذ البنود الاصلاحية شرطاً لتقديم المساعدة لوقف الانهيار الاقتصادي والمالي.
ولا يغيِّر في جوهر الأمر، ان ما هو معلن من شروط يبقى غير قابل للنفاذ إلا في ظل تسوية خارجية تتعلق بأوضاع البلد.علماً أن التسوية حول الشأن اللبناني يتحكم بها الطرف الدولي – الاقليمي المعني بها، ولا تقررها رغبات اللبنانيين، بل مدى توافر شروط انعقادها التي تبدو راهناً في حكم المؤجلة. خصوصاً في ظل تعثر المفاوضات الاميركية الاوروبية مع النظام الايراني بشأن الملف النووي، وحول دوره في المنطقة.
وما يعزز عسر استئنافها، لا يختصره ما تشهده الساحة الايرانية من احتجاجات واسعة ضد مؤسسات النظام والسلطات الدينية، على رافعة ما تتعرض له المرأة الايرانية من قمع، في موازاة اندلاع الصراع بين قوى النظام على خلافة مرجعية النظام الفقهية.
بل يشمل أيضا ما تواجهه سياساته الاقليمية من تحديات ومصاعب غير مسبوقة في العراق وسوريا واليمن ولبنان، والتي تضع نفوذه امام مسار تراجعي. وهذا ما يتيح للادارة الاميركية بالتحديد، القدرة على ممارسة المزيد من الضغوط عليه، وعدم استعجال فتح البحث معه بشأن اي من ملفات المنطقة بما فيها اللبناني.
وهو ما يخالف رغبة الادارة الفرنسية التي تبدو مربكة في التواصل مع النظام الايراني واستطراداً حزب الله، امام التصلب الاميركي ـ السعودي حيال دور الاخير في لبنان والمنطقة.
إزاء هذا الواقع ورغم اشتداد حدة الازمات والمخاطر المترتبة عليها، فإن كل المؤشرات تؤكد أن أي تسوية تتعلق بأوضاع البلد هي في حكم المؤجلة راهناً، بما فيها انتخاب رئيس جديد يشكل اعلاناً لبدء مسار انقاذي يضع حداً للانهيار الكارثي. في وقت يفتقد فيه البلد الحد الادنى من الحصانات التي تحول دون اندفاعه نحو الانفجار الكبير الذي لا يمكن السيطرة على مضاعفاته.
وما يضاعف خطورة الوضع ليس أداء أهل السلطة وحسب، بل استمرار مأزق قوى المعارضة وما هي عليه من تفكك وقصور حيال أزمات البلد والاستحقاقات الداهمة، سواء تعلق الامر بترسيم الحدود والتفريط بحقوق البلد في ارضه وثرواته، أو في ما خص الانتخابات الرئاسية، وعدم التفاعل مع المبادرة التي اطلقها تكتل نواب التغيير، الذين يتعرضون لاقسى الضغوط للنيل من استقلاليتهم، والحاقهم ببعض اطراف السلطة. هذا عدا حملة التشكيك التي تنال من دورهم وأدائهم، والتي تساهم فيها بعض قوى المعارضة ومجموعاتها.
على ذلك ومع اقتراب الذكرى الثالثة لانتفاضة تشرين المجيدة يتجدد التحدي الذي يواجه اللبنانيين. فهل من صحوة انقاذية تستعيد الثقة وتجدد الامل بإمكانية انقاذ البلد من الاخطار الزاحفة؟