جمعية المصارف تتبرأ من نهب أموال المودعين وتغسل أيديها الملوثة من مجريات الانهيار الشامل

بقلم زهير هواري

بعد تصاعد عمليات اقتحام المصارف، التي باتت بمثابة خبر يومي لدى اللبنانيين، ومعهم وسائل الاعلام العربية والدولية، وما يعقبها من إقفال، أصدرت جمعية المصارف في الرابع من الشهر الجاري بياناً مسهباً شرحت فيه وجهة نظرها في الوضع المصرفي عموماً، وما يدور فيه وحوله من قضايا وصراعات مع المودعين. وهي المرة الاولى التي يصدر عن الجمعية مثل هذا البيان، رغم أن تفاقم الأزمة بات عمره أكثر من ثلاثة سنوات، إن لم يكن أضعافها. صدور البيان في هذا الوقت المضطرب يهدف إلى تبرئة الذات، وإلصاق تهمة اصطدام المصارف بالمودعين بآخرين، وهما الدولة اللبنانية والمصرف المركزي، بينما تحل مسؤولية المصارف في اسفل السلم.

بداية تعتبر الجمعية أن الأزمة التي يمر بها لبنان سببتها عوامل مترابطة تراكمت على مدى عقود، حتى أصبحت الدولة شبه معطلة. وللإجابة على أسئلة كثيرة تُطرح حول مصير الودائع؟ ومن المسؤول؟ وهل كان في وسع المصارف التصدي للسياسات المالية والنقدية العامة؟ وهل كان في الإمكان استدراك الوضع؟ ولماذا جفت السيولة؟ وما هي الإجراءات الملحَّة؟ وأي مصير ينتظرنا؟، جاء البيان المذكور ليجيب عنها.

هنا، تعود الجمعية إلى تصريح لحاكم المصرف في شهر حزيران الفائت، وتعطفه على ما سحبته الدولة من أموال  بموجب قوانين، مقدرة بـ 62 مليارا و 670 مليون دولار، صرفت على الدعم وتثبيت سعر صرف الليرة، والفوائد والكهرباء وحاجات الاستيراد. أما ما تبقى من احتياطي بالعملات الأجنبية، فيتمثل بالإضافة إلى القروض المتبقية في السوق، والتي يسددها المقترضون بالدولار المحلي، والسيولة لدى المصارف. وتحمل الدولة المسؤولية عن الفجوة المالية، وتراها ملزمة بالتعويض عنها تطبيقا لأحكام القانون، لا سيما وأنها المسؤولة عن عمليات الهدر والاقتراض وعدم ضبط التهريب، وأيضا وفقا لأحكام المادة 113 من قانون النقد والتسليف وتنفيذا لالتزاماتها التعاقدية في موضوع اليوروبوند.

يحل المصرف المركزي في الدرجة الثانية من المسؤولية باعتباره واضع السياسات النقدية تطبيقا لسياسات الحكومات المتعاقبة وبالتوافق معها. في المرتبة الثالثة تأتي المصارف التي أودعت فائض سيولتها لدى مصرف لبنان، وهي مستعدة للمساهمة بتحمل المسؤولية الوطنية لإيجاد حل قانوني وعادل، يجب أن ترعاه الدولة في أسرع وقت ممكن. وقد راعت المصارف في توظيفاتها تعاميم الجهة التنظيمية والرقابية عليها من خلال الحدود الموضوعة لها، والالتزام بالقيود على توظيفاتها الخارجية، وأموالها المجمدة بموجب تعاميم المصرف المركزي. وينفي البيان عن المصارف مسؤولية القرار الذي أدى إلى الهاوية، وعندما حاولت، تعرض رئيس الجمعية السابق للملاحقة لأنه صارح اللبنانيين وأصحاب القرار بالوضع. ويجيب البيان على سؤال قوامه: هل كان يمكن رد جزء من الودائع رغم الأزمة؟ بنعم، في حال جرى تطبيق قانون “الكابيتال كونترول” الذي أصرت عليه المصارف. هنا يتوجه الاتهام للمجلس النيابي ضمناً. بعد الإشارة الى حجم احتياطي المصرف المركزي الذي انخفض إلى حدود 12 مليار راهناً. يجيب البيان على سؤال ثان يتعلق بمن وضع المصارف في مواجهة المودعين ويجيب: الدولة التي بددت أموالهم ورؤوس أموال مساهمي المصارف، وتأخرت في إقرار الاصلاحات. وبناءً عليه أصبح من الملح قيام الدولة اللبنانية بمصارحة المودعين عن أسباب الهدر والأسباب الكامنة وراء عدم وقفه، أو منعه من الأساس، وإقرار خطة نهوض شاملة بعد التفاوض مع صندوق النقد الدولي.  وتدعوها إلى إقرار كافة التشريعات والإصلاحات المطلوبة وأولها قانون “الكابيتال كونترول”. وفي حال قيام الدولة بالخطوات السابقة سيعلن ضندوق النقد عن متابعة المفاوضات معها، فخلاف ذلك سينضب الاحتياطي بالعملات الاجنبية لدى مصرف لبنان، وستعجز الدولة عن تأمين أي مشتريات أو مقومات العيش من الخارج، ومعه سيضحمل الأمل باسترداد الودائع. ومعه، سيستبدل التجار ماكينات عد النقود بميزان للنقود، والأمثلة موجودة ومعروفة عالمياً. وعليه، تدعو الدولة إلى تحمل مسؤولياتها فوراً، والإصغاء للأطراف المعنية وخصوصا جمعية المصارف والمودعين. هذا باختصار أبرز ما قالته الجمعية.

حبل الكذب القصير

كما يكذب المسؤولون في تحديد عناصر تشكل الأزمة وصولاً إلى انفجارها المدوي راهناً، ويغسلون أيديهم الملوثة من المساهمة في ايصالها إلى ما وصلت إليه من أوضاع كارثية. ويلقون بالتهم تارة على حاكم البنك المركزي رياض سلامة، أو المصارف، أو حتى على المواطنين الذين لا يدفعون بدل ما يحصلون عليه من خدمات ماء وكهرباء وهاتف وضرائب وغيرها بما يعادل كلفتها الفعلية أو يتهربون من دفعها. فعلت جمعية المصارف عندما أحلت مسؤولياتها في المقام الأخير.

ومما لا شك فيه أن السلطة بما هي المنظومة السياسية الحاكمة بأعمدتها السبعة هي المسؤولة عن إدارة الدولة بما لها وما عليها، طوال العقود المتلاحقة عبر الحكومات التوافقية اسماً -المحاصصة فعلاً، وكذلك الحاكم الذي سار على هوى ورغبات هذه الطبقة في تأمين الاموال للانفاق غير المجدي، الذي تحول إلى مزاريب في حسابات الزعماء وحاشيتهم. يمكن وصف الهندسات المالية مثلاً بأنها كانت عبارة عن مساهمة كبرى لصالح كبار المتمولين من رجال السياسة وأصحاب المصارف على حد سواء، ومن وعلى حساب المودعين. لعل ما تغمض عنه عين جمعية المصارف يتمثل فيما حصلت عليه من الفوائد المرتفعة على ديونها للدولة. فقد وفرت المصارف للمصرف المركزي الاموال اللازمة وبالعملات الصعبة، وهو قام بتوظيفها لدى الدولة لتأمين نفقاتها “وبعزقتها”، دون التدقيق اللازم كما تفعل مع الزبائن الذين يطلبون قروضاً لمشاريعهم الصغيرة. أكثر من ذلك عندما حذر رئيس الجمعية السابق من مغبة الافراط في الديون والانفاق غير المنتج، لم يتعرض للهجوم من جانب السلطة وأركانها فقط، بل أن الجمعية تركته وحيداً “يقلع شوكه بيديه”، دون أن تشاركه في اتخاذ موقف تضامني، فكان مصيره الاستقالة من موقعه. هناك أيضاً مسألتا قانون الكابيتال كونترول والاصلاحات اللتين ينادي بهما البيان. إذ الواقع أن المجلس النيابي عندما وصلت إليه النسخة الاولى من المشروع نشطت جمعية المصارف على “دوزنته” بما يتلاءم مع مصالحها، كما فعلت الدولة ممثلة بالحكومة. وقامت الاولى بالضغط على جميع الجهات لعدم إقرار القانون، وتوصلت بموجب تعميم مع المصرف المركزي، بحسب الصلاحيّات التي تعطيه إياها المادّة 174 من قانون النقد والتسليف إلى تعطيل محاولة صياغة قانون. وأبرز دلالة على هذا الدور، الذي أطاح بالكابيتال كونترول وسمح للمصارف بالاستمرار بتهريب الأموال، تبرز في بيان الجمعيّة المؤرّخ في 11 تشرين الثاني 2019، والذي رحّبت فيه بقرار حاكم مصرف لبنان عدم اعتماد آليّة “الكابيتال كونترول”.

وهكذا كان الاحتياطي يتابع النزف ومن أموال المودعين، بينما المجلس النيابي يدور في حلقة تشريع خلافية مفرغة، لم ينتج عنها اقرار لمشروع القانون وجعله نافذ المفعول. ومن المعلوم أن غياب قانون للكابيتال كونترول مكَّن كبار السياسيين والمصرفيين من إخراج الاموال من لبنان إلى الخارج، حتى خلال ذروة الأزمة بموجب حرية القطع والتحويل، ما قاد إلى شح الدولار في السوق، مقابل طبع كميات اضافية من الليرة اللبنانية دون تغطية بالعملات الصعبة، أو الاستقرار السياسي أو كميات في الإنتاج القابل للتصدير. ولا شك هنا أن المصارف ساهمت في الوصول إلى مثل هذا الوضع الكارثي. أما بشأن الاصلاحات فما لم يرد في بيان الجمعية ما له علاقة بتصور الجمعية للاصلاح المنشود. هل هو ما يدعو إليه صندوق النقد الدولي، أو ما تمارسه الدولة من خلال خطة التعافي وموازنتها عن العام 2022، والذي يترك القديم على قدمه مع استثنائين هما: أولاً مضاعفة الرواتب والاجور، وبالتالي طبع المزيد من الاوراق النقدية، ما يرفع وتيرة التضخم نحو حدود قصوى. وثانياً، فرض المزيد من الضرائب سواء تمثلت بالدولار الجمركي أو سواه من تكليفات من شأنها “زيادة الطين بلة” على المواطنين. يحدث هذا في ظل انهيار ما تبقى من أجهزة رقابة وخدمات عامة في مجالات التعليم والصحة وسواها.  أكثر من ذلك تدعو الجمعية لتسريع المفاوضات مع صندوق النقد، ولا تشير بأصبع إلى مقترحاته، فيما يتعلق بإعادة هيكلة القطاع المصرفي، من خلال عمليات الدمج أو سواها. وهو أمر ترفضه الجمعية مصرة على بقاء عددها كما هو ( حوالي 60 مصرفاً وقرابة 1200 فرعاً )، مع كل ما تمر به من صعوبات، وما تمارسه من ضغوط ونهب على المودعين من خلال ارغامهم على صرف ما لديهم من عملات صعبة على أساس 8 الآف ليرة للدولار الواحد ( كانت قبلاً 3.900 الآف ليرة)، فضلاً عن حجز ودائعهم وتسديدها بالتقسيط كما يحلو لها، غير عابئة بظروفهم المعيشية والصحية والتعليمية وضرورات حياتهم اليومية وسط حالة بطالة مستشرية وارتفاع أسعار يومي يشمل مختلف الحاجات بما فيها المنتجة محلياً.

“اذن يحمل البيان الدولة مسؤولية انفاق أموال المودعين على الدعم وتثبيت سعر الصرف والفوائد المرتفعة والكهرباء وحاجات الدولة من الاستيراد وغيرها…” وهو قول يحتاج إلى ترقيم لتحديد كم أنفقت الدولة على كل من الأبواب المذكورة. أهمية التدقيق هنا أنه يكشف حقيقة فجوة الخسائر التي ألمّت بأموال المودعين. التي تجاوزت  الـ 73 مليار دولار، علماً أن  الخبير المالي توفيق كاسبار، تبيّن له من خلال الارقام وتدقيقها  أن إجمالي ما وظفته المصارف لدى مصرف لبنان تجاوز الـ 100 مليار دولار. كما يتبيّن أن الدولة عوّمت المصرف المركزي بالعملات الأجنبيّة، عبر عمليّات تبادل سندات اليوروبوند، أكثر مما حصلت عليه من دولارات من المصرف، وذلك بخلاف ما يُشاع عن تبديد دولارات مصرف لبنان عبر إقراض الدولة.

وتبيّن لكاسبار أن ثمّة 38 مليار دولار من أصل فجوة خسائر مصرف لبنان مازالت مجهولة المصدر، يُرجّح ارتباطها بعمليّات وأرباح الهندسات الماليّة، وما رافقها من تحويلات استفادت منها المصارف، والتي جاءت تحت عناوين الفوائد المرتفعة وتثبيت سعر الصرف، المُشار إليها في البيان.

ختاماً، تبذل جمعية المصارف محاولة لتبرئة نفسها من المساهمة في “إخفاء يوسف” الودائع في بئر الخسائر المتراكمة، وتعمل على استنزاف المودعين والودائع التي أخرجتها من البلاد بعد أن راكمت مليارات الدولارات من عوائد الفوائد المرتفعة، والآن ترفض إعادتها وتتابع لعبتها مع المودعين وعلى حسابهم وحساب واقع ومستقبل الاقتصاد الوطني.

اخترنا لك