بقلم غادة عيد – إعلامية وناشطة سياسية
إنها الثورة التي أبصرت النور ذات مساء عندما بدأت خطى الشباب والصبايا، تلتها خطوات أناس من كل الاعمار والمناطق، تجول الطرقات الملتفة حول ساحة الشهداء في بيروت.
هذه الثورة التي اعتمرت داخلي وداخل كل مواطن حر يريد أن يعيش بكرامة في دولة الحق والعدل والمواطنة.
كل مواطن يرفض أن يكون تابعا لزعيم طائفة يتوسل منه حقوقه، فيما الزعيم يتحاصص مع زملائه الزعماء كل مقدرات الدولة.
قصدنا الساحة بعزم… بإصرار… نصبنا الخيم، تحدثنا، أنشدنا أناشيد الوطن، لوّحنا بأعلام الوطن، تناقشنا، تواجهنا مع القوى الأمنية بقوة.
أحببنا تلك الساحة الكبيرة شعرنا بأهمية الأماكن العامة التي حُرمنا منها ( بفعل سياسات الاستملاك، استملاك البشر والحجر ) تنافسنا على اعتلاء المنابر في الساحة الكبيرة…. “الى الوسط” هكذا كان الشعب يُعلِّي الصوت .
كنا نعيش احلامنا ،فيما المنظومة مستمرة رغم قلقها بنهب ما بقي من أخضر ويابس الدولة وتسعى لتهريب الأموال” أموال الدولة… أموال المودعين “الى الخارج.
نعم، خشي الفاسدون من اصرارنا، قهرتهم جدا كلمة “كلن يعني كلن”.
كلهم، فاسداً كان أم شريكاً ام صامتاً عن الفساد… انها المنظومة التي تشبك ايادي بعضها البعض عند الاستحقاقات المصيرية ثم تتشابك عند اللزوم و تتفق على ألا تتفق في خطة للبقاء، وأفتك سلاح ضد المواطنة التي نسعى إليها هو سلاح شد العصب الطائفي. لتبقى الحاجة الى الطائفة حتمية عند الضعفاء.
طائفة جديدة ولدت في ١٧ تشرين هي طائفة الوطن. الحالة الوطنية هذه كانت وتبقى الحلم التشريني الكبير.
ومن إيجابيات ثورة ١٧ تشرين انها انتجت هذه الحالة التي يفتخر بها كل من انتمى اليها. وظهرت هذه الحالة في الانتخابات النيابية أصواتا نظيفة أعطيت عن ثقة لمرشحين ثوريين بعيدا عن كل الحسابات المصلحية والمذهبية الضيقة.
ولو ان عثرات وثغرات اعترت الانتخابات بسبب القانون الحالي المفصّل على مقاس المنظومة و دور سلبي للمتسلقين على الثورة من أصدقاء المنظومة، او التابعين المقنعين لمنظومة مال وأعمال جديدة.
كثيرون يقولون انتهت ثورة ١٧ تشرين هذه لم تكن ثورة لأنها لم تنجح ولم تذهب الى استخدام كل وسائل الغضب الشعبي حتى العنف.
صحيح، ولكن، هل انتفت أسباب الثورة حتى تنتهي؟ طبعا لا ،والثورة الساكنة في قلوب أبنائها هي الجمرة تحت الرماد، فيما نار الغضب مستعرة الغضب من فساد وظلم وبطش المنظومة التي أصبحت لا محالة في طريقها الى مغادرة الحياة والى الزوال.
في ذكرى ١٧ تشرين لن ننسى شهداء الثورة
في ثورتنا، في انتفاضتنا، في حراكنا، سموها ما شئتم، سقط شهداء.
لن ننسى ما حيينا حسين العطار، أحمد توفيق، علاء أبو فخر، عمر زكريا وفواز فؤاد السمّان، وعمر طيبا الذي أصيب برصاصات امنية غادرة بظهره في طرابلس.
شهداؤنا اغتالهم سلاح شرعي في الدولة البوليسية حيث تتكامل أدوار الأمن الرسمي والحزبي والقضائي.
ومن ذاكرة تشرين مشاهد من بطولة المتظاهرين الذين رسموا لوحة مليونية رائعة اردناها شعار لبنان الجديد يرفرف فوقها العلم اللبناني فقط لا غير.
وفي الذاكرة أيضا مشاهد مؤلمة لبلطجة المنظومة ، حيث بدأ نموذج التشبيح بالظهور في الأسبوع الأول من انطلاقة الثورة.
طوّرت السلطة وقواها الأمنية أساليب القمع سريعاً لتدافع عن بقائها في معركة وجودية لها.
وبعد ان استنفذت قوى مكافحة الشغب كل مخزونها وأساليبها لقمع المحتجّين، بالغاز المسيل للدموع والهراوات والملاحقات وإقفال المناطق.
تم اللجوء إلى المؤسسة العسكرية حيث العنف مع حالات الاحتجاج وقطع الطرق سلمياً، وأيضا تكفّلت مجموعات الشبيحة التابعة لأحزاب السلطة بممارسة البلطجة. والأعنف من كان يلبس قمصان شرطة مجلس النواب.
وفي مسار القمع السلطوي لن ننسى ذات ليلة تشرينية عملية سحل في شوارع بيروت، على مدخل شارل حلو.
وبعدها استخدمت القوى الأمنية الرصاص المطاطي لتفريق الناس، ولو بالتصويب على الرؤوس والعيون في خرق واضح لكل المعايير الدولية والإنسانية في التعامل مع الاحتجاجات.
ومن العنف الأمني تم استخدام الخردق وبنادق الصيد مباشرة على المتظاهرين. حتى الرصاص الحيّ الذي اسقط الشهداء، و مما وثّقته منظمات حقوقية في تقاريرها ان من لم يصب بالتفجير، لاحقته عناصر أمنية، وقد استخدمت الدولة اللبنانية قوة مفرطة وقاتلة في بعض الأحيان ضد المدنيين العزّل.
سجّلت الدوائر الحقوقية في لبنان توقيف واستدعاء ما لا يقلّ عن 1500 ناشط وناشطة من مختلف المناطق اللبنانية خلال عام واحد وفي مناسبات مختلفة.
وحسب الأرقام تم تسجيل اكثر من الف حالة توقيف واستدعاء خلال عام. علما أنّ حركة التوقيفات والاستدعاءات مستمرّة إلى اليوم .
نعم الثورة جمرة تحت نار الغضب المستعر جراء كل ما نراه ونسمعه ونعيشه.
لن نقف عند ذكرى ١٧ تشرين متحسرين على ثورة لم تكتمل.
قبل السنوات الثلاث بسنوات وسنوات ومنذ ما بعد اتفاق الطائف لم تنجح المنظومة في بناء الدولة لأسباب ذات صلة مباشرة بالفساد والتبعية.
كنت أشعر بضرورة الثورة، تحدثت طويلا في برامجي التلفزيونية ووثّقتُ الفساد الذي لا محالة يحل كارثة على الشعب فيُفقره ويُضعفه ويَذله، وبعد ان تمادى الفساد كَثُر الفاسدون ليكثر معهم المتألمون والمظلومون والمنكوبين بجنى عمرهم و ودائعهم المنهوبة ووطنهم المسلوب امام اعينهم.
لقد أعددت وقدمت برنامج” بدا ثورة ” قبل عام ونصف على بدء الثورة.
وانتابني شعور قوي في ١٧ تشرين أنني قد نجحت في تحريض الناس.
كانت فرحة الثورة تغمرني وكنت أرى الثوار يتحررون من قيود عدة.
جمعت الثورة الناس من كل بقعة في لبنان ومن كل طائفة ومن كل خلفية اجتماعية وثقافية وقدرة مادية. جمعتهم قبل هذا الوجع الكبير والإفلاس الذي وصلنا اليه اليوم وفي ذكرى ١٧ تشرين اكرر الدعوة الى الثورة.
نعم “بدء ثورة “، رغم كل محاولات الإلغاء التي تعرضت لها هذه الكلمة واستبدالها بكلمة تغيير.
“بدء ثورة” اليوم أكثر من أي يوم مضى، من قبل ١٧ تشرين ومن بعده.
“بدء ثورة” ولا بد ان تندلع الجمرة من تحت الرماد ولو طال الوقت.
ستتخطى الثورة كل الأيديولوجيات والتنظيرات والفلسفات والتحليلات والأضاليل، ولن يستوعب جيل الثورة ان أبناء الزعماء خلقوا للحياة وأبناء عامة الشعب خلقوا للذل والموت.
لن يقبل بعد اليوم هذا الجيل الطالع من الغضب واليأس والفقر والظلم وانعدام الاخلاق والمنطق في إدارة الحكم لن يقبل نواباً قد أعطاهم ثقته وصوته قد يجالسون و يناورون و يساومون في السياسة مع فاسدين فيما هو طرد هؤلاء من الأماكن العامة لان محاكمتهم واجبة كما من الضروري استرداد الأموال المنهوبة منهم.
الجيل الجديد يعني جيل الثورة الذي لا يتلقى الأوامر ولا يخاف.
جيل الثورة لا يحب القمع والتعليب والتكبيل ولا يريد ارتداء اثواب الطائفة ولن ينصاع وراء زعيم.
جيل الثورة لا يقاس عمره بسنوات بل بوعي ونضوج ولن يستغرق بلوغه سن الرشد إلا الوقت القليل والقليل جدا و ستستيقظ الثورة من تحت رمادنا لتندلع بناره.
أما من الناحية العملية وفي “الذكرى” لا بد من بلورة وتنظيم اطار جامع لـ ١٧ تشرين طالما نادينا به يندرج ضمن إطار مجلس ثوري تغييري يضم شخصيات مناضلة ومجموعات تغييرية حقيقية ثابتة على مبادئ الثورة تحوز ثقة الناس كي ننطلق مواكبين مرحلة جديدة من عمر الوطن لا بد اتية بأفضل من نتائج هذا الانهيار الكبير الذي وصلنا اليه.