بين عيون بيروت وشيعة لبنان… سلاح وبندقية

"الجزء الأول" ليس سهلاً أن تكون شيعيّاً من لبنان وفي لبنان

بقلم غادة المُرّ

تُشكّل الطائفة الشيعيّة في لبنان ركناً أساسيّاً في تكوين النّسيج اللبنانيّ، إلى جانب الطوائف الأخرى المسيحيّة، السنّية، الدرزيّة وغيرها. عاش لبنان عصره الذّهبيّ مع المارونيّة السّياسية، فكانت حقبة رائدة من الازدهار والانفتاح والتطوُّر، حيث أصبح لبنان “سويسرا الشرق” وملاذاً آمناً للحريات والعلم والثقافة والفن. إنّ تعدد الطوائف والمذاهب فيه منحه بصمة مميّزة في محيطٍ متجانس، وجعل منه بوابة وصل بين الشرق والغرب.

بدأ أفول المارونيّة السياسية مع صعود نجم عبد الناصر في مصر، وبروز القضيّة الفلسطينيّة وتهجير أعدادٍ كبيرة من الفلسطينيين إلى الأردن ولبنان حيث استقرّوا في مخيّمات منفصلة. وبعد أن فرض عبد الناصر على لبنان “اتفاقيّة القاهرة”، شُرّع العمل الفدائيّ انطلاقاً من جنوب لبنان. ومع محاولات الدولة اللبنانيّة قمع تمرّد الفلسطينيين وتعاظم نفوذهم، تدخّلت سوريا بإغلاق حدودها ومنعت تدخل الجيش اللبناني، الذي حُيّد بضغط عربيّ ومباركة سنّية واضحة. دخل لبنان حرب 1975 التي امتدّت لثلاثة عقود، انتهت بدخول الجيش السوري لبنان، وبداية عصر السنيّة السياسية، بعد اغتيال الشيخ بشير الجميّل وتسليم “القوات اللبنانية” سلاحها.

مع انتهاء الحرب وإقرار “اتفاق الطائف”، استمرّت السنيّة السياسيّة وبلغت ذروتها مع صعود “الحريريّة السياسية” بقيادة الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وصولاً إلى الرابع من آذار والمظاهرة المليونية بعد اغتياله، وخروج الجيش السوري من لبنان، إيذاناً بانتهاء حقبة السنيّة السياسيّة.

في تلك المرحلة، ومع انسحاب الجيش السوري، وإضعاف العراق عبر إسقاط الرئيس صدام حسين، وبعد أن عاشت الطائفة الشيعيّة عقوداً من التهميش السياسي والاجتماعي، بدأ صعود “الشيعيّة السياسيّة”.

استفادت إيران من تغيّر المزاج الغربي بعد أحداث 11 أيلول، ومن تصاعد التطرّف السني بقيادة أسامة بن لادن، في ظلّ سيطرة السنّة العرب على موارد النفط والغاز، ودعمهم التقليدي للقضيّة الفلسطينية والعمل الفدائي. بعد الاجتياح العراقي للكويت، جاء الغزو الأميركي للعراق وسقوط صدام، فيما دعمت “إسرائيل” القوات الإيرانيّة عسكرياً في فترات معينة. كان الغرب يسعى لخلق توازن عبر تقوية النفوذ الشيعي، فاستغلّت طهران الفرصة وبدأت توسّعها عبر أذرعها في العراق، اليمن، سوريا، لبنان، أفريقيا وأميركا اللاتينية، بقيادة قاسم سليماني.

دخل “حزب الله” إلى سوريا دعماً لنظام بشار الأسد، فتحالف مع الروس، ومرّر السلاح والمال عبر الأراضي والمعابر، فكان “محور المقاومة”. وبعد حرب تموز 2006، ومع الانسحاب “الإسرائيلي” من الجنوب، بدأت ذروة “الشيعيّة السياسيّة”.

بدأ “حزب الله” بحفر الأنفاق وتخزين السلاح، وأنشأ مؤسسات موازية للدولة، وتغلغل في مفاصلها، مسيطراً على المطار والمرافئ والمعابر. اعتمد سياسة الترهيب والترغيب، وفرض الولاء من خلال التعيينات والتحالفات، وكمّ الأفواه المخالفة. شيّد شبكة إعلامية، قضائية، تربوية، صحّية، ومالية (“القرض الحسن”)، فبنى “دولة ضمن الدولة”.

انتشر الشيعة في الجنوب، البقاع، وضاحية بيروت الجنوبية، وكان “حزب الله” في قمة قوّته بقيادة السيد حسن نصر الله، صاحب الكاريزما وروح الدعابة والخطابة المؤثرة، حتى صار خصومه يحترمونه. إلى جانبه، كانت “حركة أمل” بقيادة نبيه بري، الوجه السياسي الثاني للحزب.

وفي الظل، بقيت شريحة من “المعارضة الشيعية” تحاول كسر الطوق.

واليوم، مع تبدّل المزاج الدولي، والسعي الحثيث لتقليص نفوذ إيران والقضاء على أذرعها المنتشرة في الشرق، وبعد أحداث السابع من تشرين، اشتعلت الحرب على غزّة، التي مُسحت عن الخريطة وهُجّر سكانها. وبقرار إيراني، أعلن الأمين العام لـ”حزب الله” دعمه لغزّة، فدخل لبنان عين العاصفة.

قصفت “إسرائيل” القرى الجنوبيّة، دمّرت الأنفاق ومخازن السلاح، واغتالت قادة الصفّين الأول والثاني من الحزب، وصولاً إلى تنفيذ “عملية البيجر” التي قَصَمت ظهر المقاومة، وأسفرت عن اغتيال السيّد حسن نصر الله وخلفه.

ومع سقوط نظام بشار الأسد وتغيّر النظام في سوريا، بدأت مرحلة تحجيم اليد العسكرية للشيعة وأذرع إيران. تحت وقع القصف والاغتيالات، تمّ توقيع اتفاق هدنة شاملة، جرى خلالها تسليم السلاح وحصره بيد الدولة، مع تنفيذ القرارات الدولية، وأهمها القرار 1701.

في ظلّ القرار الدولي بمنع إيران من امتلاك السلاح النووي، وضرب طرق إمداد الحزب بالسلاح والتمويل، تم انتخاب العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية، ونواف سلام رئيساً للحكومة. وهكذا، طويت صفحة كاملة من تاريخ لبنان، مع أفول نجم “الشيعيّة السياسية”.

وبانتظار ما ستؤول إليه المباحثات الأميركية – الإيرانية، بعد تدمير البنية العسكرية لـ”حزب الله” في لبنان و”الحوثيين” في اليمن، وتراجع النفوذ الإيراني في العراق، يكون موت الأمين العام للحزب قد أنهى فعلياً عصر “الشيعيّة السياسية”.

على أمل أن ينهض لبنان من ركامه، ويخطو بثبات نحو فجرٍ جديد، نحو بناء دولة قويّة، ولبنان الذي نحلم به.

اخترنا لك