17 تشرين… لبنان، بين الماضي والحاضر والمستقبل من اللادولة إلى الدولة

جزء ثاني

بقلم د. فؤاد سلامة – كاتب وناشط سياسي

مع بروز دور “حزب الله” كفاعل أساسي على الساحة اللبنانية، ومع تغلغل هذا الدور في مؤسسات الدولة وأجهزتها وصولاً لسيطرة شبه تامة على مفاصل الدولة، ازداد تراجع النظام اللبناني عن المستوى الذي كان عليه قبل ولادة الجمهورية الثانية، وتحولت الدولة التي استلم إدارتها أمراء الحرب وزعماء الطوائف إلى دولة فاشلة وجدت لها مكاناً في أسفل سلم الدول الفاشلة في العالم.

كان من الطبيعي أن تغرق الجمهورية الثانية في مستنقعات الفساد وأن يتلاشى أي دور إصلاحي للنخب الحاكمة مع انضمام آخر فريق من أفرقاء الحرب الأهلية إلى الجمهورية الثانية، وهو الفريق العوني الذي لم يكن في الأساس موافقاً على اتفاق الطائف في جزئه الإصلاحي.

مع دخول الفريق العوني دخولاً كاملاً الى السلطة بكل ما يحمله من أحقاد وأوهام وجشع ونزوع سلطوي وما يضمره من توق إلى الهيمنة وإخضاع المجتمع لنزوات قادته المصابين بهوس السلطة، اكتمل سقوط الدولة في أيدي أمراء الطوائف الذين أوكلوا إدارة الأمور المالية للدولة إلى أحد كبار مهندسي سرقة خزائن الأموال المودعة في المصرف المركزي وفي المصارف الخاصة.

سنوات عدة تم تضييعها قبل الانتباه إلى نفاذ الأموال من خزائن الدولة وتراكم الديون وتعمق الاختلالات الاقتصادية. بل يمكن القول أنه مع انتباه الموكَلين بأمور الدولة إلى استنزاف الاحتياطات وتصاعد العجز المالي، كان هناك مايسترو محنك وضليع بتنظيم وتشريع السرقات يقوم بعمله على أكمل وجه في خدمة الطغمة الحاكمة، وهو يقوم بوضع ما يلزم من خطط من أجل توسيع الفجوة المالية وتضليل الناس والإعلام بالكلام عن قوة العملة الوطنية وصلابة النظام المصرفي اللبناني.

كل ذلك من أجل إطالة عمر النظام المتهالك عبر استقدام المزيد من أموال المودعين، بكل أساليب الخداع، كي تغذي خزائن الدولة الفارغة ومن ثم تغادرها إلى الخارج لتنام في حسابات كبار السياسيين وأعوانهم وأنسبائهم وحسابات أصحاب المصارف المسجلة في البنوك الغربية وفي الجنات الضريبية التي ساعد المايسترو المحنك أركان السلطة وأعوانهم في تهريبها إليها بجميع الطرق المشروعة والملتوية.

مع بدء انتفاضة ١٧ تشرين لم يتوقع اللبنانيون حجم الخراب والاهتراء الذي كان قد أصاب دولتهم ونخرها. افترش الثائرون الساحات وحناجرهم تصدح ضد المنظومة السياسية بشعار “كلن يعني كلن”.. حمل المنتفضون بكل براءة أحلامهم بدولة حديثة تلبي حاجات الشعب وتطلعات الشباب والصبايا الثائرين.

شكَّلت انتفاضة ١٧ تشرين متنفساً عن الاحتقان وتعبيراً فولكلورياً عن مشاعر النقمة والغضب التي تختزنها النخب المتعلمة المتحدرة من الطبقات الوسطى، وتطلعاً لجمهورية مدنية لا تمييز فيها بين المواطنين.

سرعان ما تم وأد الثورة وأحلام الثائرين وأوهامهم عندما اصطدموا بالحائط الصلب لنظام التحاصص الطائفي. كان الواقع العفن أكثر صلابة من أحلام الثائرين.

بعد أخذ ورد وإسقاط حكومات استطاعت قوى الثورة المضادة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، ولم يتمكن الثائرون من تشكيل قيادة موحدة لهم تجمع صفوفهم المشرذمة وتواجه الطغمة الحاكمة التي توحدت في مواجهة الشارع الغاضب.

بحماية السلاح غير الشرعي للدويلة التي هيمنت على الدولة واستتبعت مؤسساتها، استطاعت منظومة “كلن يعني كلن” استعادة المبادرة وكسر شوكة المنتفضين على سلطتها.

لم تتمكن قوى الاعتراض من تنظيم صفوفها وانقسمت مجموعات متفرقة وشللاً متناحرة وأحزاباً تقليدية على رأسها قادة لا ينتمون للمستقبل بل للماضي. غرق المنتفضون في صراعات فئوية ولم يتوصلوا لإنتاج قيادات رؤيويه، متناغمة فيما بينها، تحمل فعلاً قِيَمَ الجمهورية ولا تحلم بها فقط.

خاضت قوى الاعتراض بعد جهود مضنية معركة الانتخابات النيابية بما أمكن من لوائح تغييرية موحدة. اصطدمت تلك اللوائح الموحدة بنفس العقليات الجامدة وبنفس الأنانية والعصبية التي صبغت مجموعات الانتفاضة وغطت على خطابها الثوري.

كان يمكن لمعركة الانتخابات النيابية أن تحقق نجاحات مهمة لو لم يتمرس بعض المرشحين خلف أوهامهم وطموحاتهم الشخصية المبالغ بها.

لكي تحجز قوى التغيير والتجديد موقعاً متقدماً ومتميزاً لها مستقبلاً في الصراع الدائر حول هوية الوطن وشكل الدولة التي يحلم الكثير من اللبنانيين بقيامها، ينبغي أن تبذل تلك القوى جهوداً مضاعفة لتشكيل قوة سياسية منظمة تدعمها كتلة اجتماعية عابرة للمناطق والجماعات الأهلية، ويلتف حولها ائتلاف واسع لقوى الاعتراض والتغيير ويحمل مشروعها تكتل نيابي في البرلمان.

لا بديل عن الانتظام الحزبي المستند على برنامج سياسي جامع ونظام داخلي يدمج بين المركزية والديمقراطية من خلال صيغة مرنة وقابلة للتطوير.

هذا البرنامج السياسي الجامع ينبغي أن يتركز حول شروط انتقال لبنان من كيان ذي نظام سياسي هجين هو نظام اللا دولة، إلى لبنان الدولة المدنية الحديثة، والخطوات الآيلة لاتخاذ الإجراءات الأساسية المسرِّعة لقيام تلك الدولة، والتي ينص على بعضها الدستور واتفاق الطائف الذي أصبح جزءاً من الدستور، وعلى رأسها :

– وقف كافة أشكال الانتقاص من السيادة ومن هيبة الدولة وسلطتها على جميع الأراضي والمعابر بقواها الأمنية الشرعية.
– إقرار قوانين استقلالية القضاء والإدارة وتطهير القضاء والإدارة من كل ما اعتراهما من شوائب وخضوع لأصحاب النفوذ.
– إنهاء التوزيع الطائفي للمراكز والمناصب والوظائف وفي البرلمان، مروراً بمرحلة انتقالية تتشكل فيها حكومات الأكثرية النيابية مناصفة ومداورة بين المسلمين والمسيحيين من دون تخصيص مذهبي.
– إقرار قانون عادل وعصري للانتخابات.
– إقرار قانون جديد للأحزاب يشجع على قيام أحزاب وطنية مدنية لاطائفية وديمقراطية غير تابعة للخارج، كمدخل لتداول السلطة عبر الانتخابات الحرة.
– التوصل لتوافق سياسي على منع تدخل رجال الدين في السياسة ووضع حد لتحكمهم بخيارات الناس في نظام وأسلوب حياتهم واجتماعهم، مقابل منح الكيانات الطائفية دوراً محدوداً من خلال مجلس شيوخ محصور الصلاحيات، يضمن احترام الحقوق الثقافية وحرية المعتقد لكل الأفراد والمكونات اللبنانية.

اخترنا لك