ترسيم السلطة

بقلم غسان صليبي

لا يمكن فهم حجم التنازل عن الحقوق الوطنية الذي أقدمت عليه السلطة بدعم كامل من “حزب الله”، في إتفاقيّة ترسيم الحدود البحريّة مع إسرائيل، إذا لم نفهم ان الدافع الأقوى وراء هذ الإتفاقيّة هو ترسيم السلطة نفسها.

ترسيم السلطة بمعناه الثلاثي: المعنى الكهنوتي، المعنى الرسمي، والمعنى الواقعي.

المعنى الكهنوتي أولاً

ترسيم شخص هو إعطاؤه درجة من درجات الكهنوتيّة، والكهنوت هو قوّة الله وسلطته. لكن درجة الكهنوتيّة التي أعطيت للسلطة لم تأت من الله بل من الشيطان الأكبر. فقد اتّصل الرئيس الأميركي بالرئيس عون وهنّأه على فعلته. ومَن أحق من الشيطان الأكبر، في تطويب الشياطين الذين يحكمون جهنّم لبنان؟ لن يتجرّأ “حزب الله” بالطبع، على تسمية هذا الإنتصار بــ”الإنتصار الشيطاني”.

المعنى الرسمي ثانيًا

فعندما نقول إن شخصًا “توصّل بقرار الترسيم” نعني انه “قرارُ تصييره رسميًّا في وظيفته”.

لا تعتقدوا أن اركان السلطة كانوا يضيّعون وقتهم منذ ١٧ تشرين ٢٠١٩ حتى اليوم. لا تظنّوا ان عدم اهتمامهم بشؤون المواطنين، وتعطيلهم القضاء وتأليف الحكومة وانتخاب رئيس الجمهورية، يعني انهم يمضون وقتهم في التسلية والسفر وألعاب الميسر. فمنذ الإنتفاضة وهاجسهم الأوحد هو كيفيّة تحصين سلطتهم في وجه نقمة شعبهم، وفي إطار تراجع الإعتراف الدولي بشرعيتهم.

في بداية الإنتفاضة، نعتهم شعبهم بالفساد والسرقة. ولم تمضِ سنة على الإنتفاضة، حتى جاء تفجير المرفأ ليكشف عن إجرامهم في حق شعبهم. سقطت السلطة أخلاقيًّا في عيون شعبها، ولو أن الإنتفاضة لم تستطع إسقاط أركانها وطردهم من المؤسّسات الدستوريّة. كما ان الإنتخابات النيابيّة قلّصت بعض الشيء حجم تمثيلهم الشعبي، لكنها أبقت للأسف نفوذهم في المؤسسات الدستوريّة.

اربكتهم مقترحات ماكرون بعد تفجير المرفأ، ومحاولاته تأليف حكومة اختصاصيين مستقلّين. لكنّه عندما أبدى استعدادًا لمهادنة السلطة، ولم يبدِ الأميركيون في المقابل حماسة لمقترحاته، تمكّنوا من إسقاط هذه المقترحات الواحد تلو الاخر، وصولاً في نهاية الأمر الى إقصاء الحريري والمجيء بميقاتي على رأس حكومة ضمّت اتباع السياسيين، كما أرادوا منذ البداية. كذلك نجحوا في الحفاظ على نبيه بري على رأس المجلس النيابي. في موازاة ذلك تابعوا المماحكة مع صندوق النقد الدولي، الذي اهدى اليهم إتّفاقًا على مستوى الموظفين قبيل الإنتخابات النيابيّة.

جميع هذه التطورات أراحتهم بعض الشيء، سيّما ان التهويل الأميركي والأوروبي والفرنسي بالعقوبات، لم يحُل دون إستمرار التواصل الديبلوماسي الدولي معهم ودون الإستمرار بمدّهم بالمساعدات الماليّة المتقطّعة، كما ان العلاقة مع بلدان الخليج تحسّنت بعد المبادرة الكويتيّة.

لكن تأزّم الوضع المعيشي المترافق مع تسارع الإنهيار المالي والإقتصادي، يصعِّب عليهم الإستمرار في الحكم دون مصادر ماليّة، تسمح لهم بإدارة شؤون الدولة في الحد الأدنى المطلوب.

صندوق النقد الدولي فتح لهم الباب، لكنّه اشترط عليهم تطبيق إصلاحات تشكّل مراقبة على سلوكياتهم في مجالات الهدر والفساد، كما ان المساعدة التي وعد بها لا تلبّي الإحتياجات إلاّ على المدى القصير. إقرارهم للموازنة أتى في هذا السياق تحديدًا، مع إغفال تام لجميع وظائف الموازنة وقانونيتها. وليس معروفًا بعد كيف سيتعاملون مع الشروط الأخرى التي يطالب بها الصندوق.

وكإنتهازيين محترفين، لم يتركوا أنفسهم تحت رحمة صندوق النقد الدولي فالتفتوا الى الثروة من غاز ونفط، التي يختزنها بحرنا، والتي اعتبرها نصر الله “الحل الوحيد” لأزمتنا الإقتصاديّة والماليّة والمعيشيّة. ورغم ان الافادة من هذه الثروة لن يكون ممكنًا قبل عشر سنوات على الأقل، إلاّ انها يمكن ان تشكّل من جهة، مصدرًا للإستدانة، ومن جهة ثانية ضمانا لديمومة السلطة على المدى البعيد.

ومن أجل تحقيق هذين الهدفين، التنازل عن جزء من الثروة البحريّة يصبح مشروعًا ومبررا لسلطة لم تكترث يوما لمصالح وطنها وشعبها. وقد توسعتُ في مقالين سابقين نُشرا في “النهار”، في شرح الإستراتيجية التفاوضية الحمقاء والمتخاذلة التي اتبعتها السلطة، وفي تبيان أهداف “حزب الله” من خلال دعم هذه الاستراتيجية (“مفاوضات السلطة لترسيم الحدود المائية: حماقة ام خيانة؟”، “هل الغرض من أكل “حزب الله” العنب قليل من اللبننة او مزيد من الهيمنة؟”)

إتفاق الترسيم لا يضمن ديمومة السلطة ماليًّا فحسب، بل أمنيًّا وسياسيًّا. فالجار الشمالي، أي نظام الأسد، حليف، والجار الجنوبي، أعطى مباركته، من خلال الإتفاقيّة، للسلطة ولنواتها الصلبة، أي “حزب الله”.

يمكن للسلطة اللبنانيّة ان ترفض تسمية إتفاقيّة الترسيم تطبيعًا مع إسرائيل، لكن هذه الإتفاقيّة هي بالتأكيد تطبيع مع لبنان بالنسبة لإسرئيل، وبالتالي ومع الحزب الذي يحكم لبنان أي “حزب الله”.

المعنى الواقعي ثالثا

أمّا المعنى الثالث “لترسيم السلطة” الذي سميته “المعنى الواقعي”، فهو ترسيم الحدود بين السلطة الفعليّة والأطراف السياسيّين الآخرين المعارضين.

بدأ الفرز يتوضّح مع تأليف حكومة ميقاتي التي ضمّته مع “الثنائي الشيعي” و”التيار الوطني الحر” و”المردة”، بالإضافة الى تطعيم بسيط بــ”التقدمي الإشتراكي”. استمرّ الفرز مع التصويت للموازنة، فبدا واضحًا ان هناك سلطة لديها موازنة تضم أطراف الحكومة، وصوّتت للموازنة، ومعارضة عارضت إقرار هذه الموازنة.

هذه السلطة بدت قلقة مع اقتراب موعد الإنتخابات الرئاسيّة. فهي منقسمة على نفسها بين من يؤيّد باسيل ومن يؤيّد فرنجية، لكن قلقها هو في الواقع أبعد من ذلك، إذ انها غير قادرة على فرض إنتخاب أي منهما في ظل موازين القوى في المجلس النيابي وبين اللاعبين الخارجيين. لذلك هي تعطّل انتخابات الرئاسة حتى نضج ظروف أفضل.

وفي الإنتظار تريد ضمان شرعيتها من خلال حكومة موالية تستلم الحكم خلال الشغور الرئاسي. لذلك يصرّ “حزب الله” على شرعنة حكومة تصريف الأعمال الحاليّة ولو مع إدخال بعض التعديلات عليها، مع الحفاظ على تمثيل قويّ لـ”التيار الوطني الحر”، المفترض ان يفقد بعضًا من نفوذه مع مغادرة عون لبعبدا، ومع التراجع الدراماتيكي لشعبيته المسيحيّة.

في هذا السياق يأتي ترسيم الحدود البحريّة مع إسرائيل ليعطي متنفّسًا لـ”التيار الوطني الحر”، وحجة أقوى لـ”حزب الله” ولباسيل لفرض تنازلات أكبر على ميقاتي في مجال تأليف الحكومة.

بعد ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، وترسيم السلطة الذي رافقه، أصبح ملحا على أطراف المعارضة بجميع تلويناتها، وإذا ارادت ان تكون فعالة، التخلي كليا عن شعار “كلن يعني كلن”، وعن الفصل بين السلطة و”حزب الله” بحجة مقاومة إسرائيل، والعمل على فهم النظام الريعي النفطي الذي يجري تكوينه كأداة مالية وإقتصادية للحكم في المستقبل.

وبالتالي بلورة أطروحات تغييرية واساليب مناسبة لتحقيقها، تتلاءم مع الواقع الفعلي، ولا تجتر برامج اثبتت عقمها في ظروف ماضية، ولم تعد تصلح إطلاقا في الظروف المستجدة. وهل من مناسبة افضل من الذكرى الثالثة لإنتفاضة 17 تشرين للقيام بذلك؟

اخترنا لك