بقلم عقل العويط
إنّه زمن الكوليرا اللبنانيّ، فأبشِروا.
لم يعد خافيًا على أحد، ولا على العارفين والمغفّلين، وخصوصًا مَن يعملون مع أهل السلطة ويمشون في ركابهم، ومَن أيضًا تصبّ مواقفهم المتذاكية (موضوعيًّا) في مصلحة هذه العصابة الجهنّميّة، أنّ وباء الكوليرا يدقّ الأبواب دقًّا عنيفًا، بل “يضرب” علنًا وفي الخفاء، وعلى كلّ المستويات.
الكوليرا، لمَن يحبّ أنْ يعلم – ويتعلّم – ليس وباءً ناجمًا فحسب عن انتشار التلوّث في الماء والخضر والفاكهة وسائر أنواع الطعام، وعن انهيار معايير النظافة والوقاية والصحّة العامّة وشروطها فحسب، بل هو وباءٌ ناجمٌ أيضًا وفي الآن نفسه عن صعود الفساد والفاسدين والذمّيّين والبلهاء والسذّج والانتهازيّين والمتسلّقين والسارقين والقاتلين والطغاة إلى مراتب إدارة الشأن العامّ، وناجمٌ في الآن نفسه عن انهيار معايير الأدب والكياسة والسياسة والأخلاق.
حتّى ليسأل المرء نفسه سؤالًا من مثل: كيف أصافح (افتراضيًّا وواقعيًّا) مَن يداه ملوّثتان بالوسخَين المادّيّ والمعنويّ من دون أنْ أُصاب بوسخَين مماثلَين؟ السؤال نفسه يجب أنْ ينطرح بشكلٍ حسّيّ بحيث تفهمه العامّة من الناس، فيكون مثلًا على الطريقة الآتية: كيف يُنتخَب رئيسٌ غير فاسد وغير خائن وغير مقايض وغير مساوم وغير انتهازيّ وغير أُلعُبان وغير دمية إذا كان (بعض) مَن ينتخبه فاسدًا وخائنًا ومقايضًا ومساومًا وانتهازيًّا وألعبانًا ودمية ؟!
كوليرا. كوليرا. إنّه لبنان في زمن الكوليرا. وإنّها السياسة والرئاسة والوزارة و… النيابة في زمن الكوليرا. فكيف لا ينتشر هذا الوباء انتشارًا قياميًّا، الأمر الذي يحتّم الحجر الصحّيّ على الموبوئين مطلقًا، المصابين منهم بالوباء نفسه، وأولئك (أو هؤلاء) المصابين بكوليرا الخيانة والمقايضة والمساومة والبيع والشراء على حساب لبنان واللبنانيّين، وفي مقدّمهم أهلُ السلطة والناخبون والانتخاب برمّتهم أجمعين !
تذكّرتُ صديقي غبريال غارثيا ماركيز، وروايته المحبوبة “الحبّ في زمن الكوليرا”، واستحضرتُ بطله العاشق ساعي البريد، الذي يبدأ حبّه وهو دون العشرين ولا ينتهي في السبعين (وإنْ في زمن الكوليرا)، ولا بعد السبعين، ولا مدى العمر والسنين. وتذكّرتُ في الآن نفسه كم أحبّ العزلة، والأعوام المئة من العزلة، والواقعيّة الغرائبيّة والسحريّة، وكم يجب أنْ أحبّ المستحيل، والحبّ المستحيل و… السياسة المستحيلة (النظيفة) المتحرّرة من الأوبئة، لكسر الوباء و الموبوئين.
إنّي لا أهذي، بل أعترف بل أبوح بل أتشمّس بل يلطشني السهرُ تحت القمر الرغيف، فيمتنع عنّي النوم، وأمنع عنّي النوم، مهجوسًا بالكوليرا، بقصيدة الكوليرا، وباحتمال انتخاب رئيسٍ للجمهوريّة في زمن الكوليرا المستحدث والمستجدّ، هنا والآن، وباحتمال عدم انتخاب هذا الرئيس، وباحتمال صيرورة الفراغ (الشغور) واقعًا سحريًّا غرائبيًّا ليس على الطريقة الأميركيّة اللّاتينيّة بل على طريقتنا الجهنّميّة اللبنانيّة، وباحتمال حصول ما لا يُحتمَل، ممّا يستدعي الاستنجاد بطقوس الكهانة والعرافة وضرّاب المناديل والسَّحَرَة ليفكّوا الطلاسم والتعاويذ، رفقًا بلبنان واللبنانيّين. بل ممّا يستدعي الاستنجاد بسياسة الحجر الصحّيّ على لبنان وهذه الزمرة من أهل السلطة والمتحكّمين.
وبعد، دُعِي “سيّد نفسه” أمس الخميس 13 تشرين الأوّل إلى عقد جلسةٍ ثانيةٍ لانتخاب رئيسٍ للجمهوريّة، تَعَطَّلَ نصابُها، فلم تنعقد ولم… يُنتخَب رئيس، في دلالةٍ مأسويّةٍ مفجعة على حجم الاستهتار والاستخفاف والقحط والانحدار والاهتراء الذي يستولي على الطبقة السياسيّة وواجهتها النيابيّة التشريعيّة غير المشرقة وغير المشرّفة.
ترى، لماذا نريد رئيسًا، إذا كانت الخيانات والترسيمات هي البطولات فوق الطاولات تحت الطاولات وفي طيّات الزيارات المكّوكيّة، وعلى عينكَ يا تاجر يا شاطر؟ ولماذا نريد رئيسًا هو ثمرة الخيانات والمقايضات والترسيمات، ونظنّ متوهّمين على طريقة (الأبرياء الحالمين) الدونكيشوتيّين والسانشويّين أنّنا “نناضل” من أجل انتخاب رئيسٍ فوق الأحزاب فوق الأطراف فوق الجميع، “سياديٍّ” وغيرِ فاسدٍ وغير لاهثٍ وغير مسترئسٍ وغير منبطحٍ وغير راكعٍ وغير متوسّلٍ وغير (…)، ولا يستحي حاضره من ماضيه، ولا ماضيه من حاضره، إذا كان الزمنُ اللبنانيّ زمنَ كوليرا متفشّيًا في العقول والنفوس والأخلاق والقيم والمعايير، وفي نخاعات النوّاب الذين لا يستطيع واحدهم ولا بعضهم (ولا مَن لا نزال نحتضنهم؟!) أنْ يقنع أحدًا بأنّ الشمس مشرقة لأنّ “آخر” سبقه إلى قول ذلك، أو قول عكسه ؟!
صديقي فلورينتينو أريثا (يا بطل الحبّ في زمن الكوليرا)، أعرف أنّكَ لم تيأس من الحبّ. وأعرف أنّكَ أحببتَ فيرمينا داثا، وأنتَ في الثامنة عشرة من عمركَ، ومن النظرة الأولى. وأنّ والدها حال بينكَ وبينها، وزوّجها من رجلٍ آخر، وأنّكَ عندما عدتَ والتقيتَ بها في السبعين، بعد وفاة زوجها، كان حبّكما (المستحيل) لا يزال متأجّجًا وضارمًا ومضطرمًا. وأنّ هذا المستحيل صار ممكنًا بل حقيقةً وواقعًا.
إنّي أتذكّركَ جيّدًا وأستدعيكَ رمزيًّا في زمن الكوليرا اللبنانيّ هذا، لأقول للعشّاق، للأحرار، للثوّار، وأيضًا لهؤلاء الملوّثين بالكوليرا السياسيّة، وللمتردّدين، وللمتزمّتين، وللذين لا يرون أبعد من أنوفهم، وللخائفين من أنْ يوصموا بالانحياز، وبعدم الحياد، إنّ المستحيل السياسيّ والرئاسيّ والانتخابيّ ممكنٌ، إذا أراد بعضكم، نصفكم، وأكثر من نصفكم (وتكتّلكم) أنْ يكسر المستحيل.
والسلام.