17 تشرين… محفورةٌ في ضمير الوطن

بقلم فادي الدمشقي – عقيد متقاعد في الجيش اللبناني

17 تشرين، أهم محطَّة – حتى اليوم – في تاريخ تحرُّر وعي المواطن اللبناني منذ قيام لبنان، بل هي من أهم محطَّات النهضة العربيَّة منذ عقود؛ وليس ذلك تقليلاً من انتفاضات الشعوب العربيَّة في الربيع العربي، بل لأن النظام اللبناني هو من أشرس الأنظمة الشيطانيَّة في العالم، والقائم على تحالف 18 طائفة وكذا ميليشيا، لإبقاء سيطرة الجهل والتبعيَّة على عقول اللبنانيِّين.

لقد اعترفت الولايات المتَّحدة، بدورها في تأجيج النيران لولادة الربيع أو الزلزال العربي، ولكن هذا الدور الطبيعي لدولة عظمى في استغلال الأزمات لصالحها – بغض النظر عن الحق في ذلك – لا ينفي وجود ودور الوعي العربي، ومسيرة الكفاح الوطني في كلٍّ الأقطار العربيَّة، لتحسين أنظمة الحكم السائدة منذ عقود في عالمنا العربي المبتلى.

كذلك في لبنان، فهناك دورٌ كبير للقوى العظمى والقوى الإقليميَّة، في توقيت وتحريك، أو في السماح بقيام الانتفاضات، ولكن ذلك لا يعني عدم وجود المادة الأساسيَّة الملتهبة لهذه الانتفاضات أي “عدم رضى الشعب – على الأقل من خلال النخب الواعيّة – عن مسار الأمور في الجانب والسياسي والاجتماعي.

17 تشرين، كانت ثورةً سلميَّةً، ناهضت العنف منذ انطلاقها، والعنف لم يقتحم حصونها، إلا بدور مباشر من منظومة الحكم الفاسدة، أو لتيئيس الناس ودفعهم للتطرّف للانقضاض عليهم لاحقاً، أو بدفع المأجورين لافتعال العنف، بهدف شيطنة الثورة وتفريغ 17 تشرين من مضمونها السامي.

17 تشرين، كانت الحضور السياسي الأقوى للمرأة اللبنانيَّة، للأم اللبنانيَّة الثكلى، للمرأة التي تريد صناعة السلام والخير والمحبَّة، ضد جبروت الطغاةِ والعملاء والمأجورين، وضد طغيان الذكوريَّة التي فشلت في حفظ أمن وسلامة لبنان.

17 تشرين، كانت ثورةً أخلاقيَّة، بدليل اندفاع الجيش لحمايتها رغم الأوامر الصارمة بالتصدِّي لها وقمعها، والتزام الثورة في أيامها الأولى بسلامة القوى المسلحة أبناء الوطن.

17 تشرين، أخطأت تكتيَّاً بشعار “كلُّن يعني كلُّن”، فكتَّلت كل القوى الحاكمة ضدَّها، ولكنّها أصابت استراتيجيَّاً حين صوَّبت على الجميع المتورط في نحر المواطن والوطن.

17 تشرين، كانت أهم مفصل في التصدّي للاقتصاد السياسي المريض والعقيم، والقائم ضد مصلحة لبنان، بدليل سقوط القناع عن السياسيِّين والمصرفيِّين في نفس الوقت، وبدليل سرقة أموال المودعين اللبنانيّين ومدَّخرات العرب والأجانب المؤمنين بسلامة الاقتصاد اللبناني.

17 تشرين، كانت تجربة ديمقراطيَّة رائدة، انخرطت فيها قوى مختلفة من كل لبنان، ولكن إحدى مشكلاتها كانت، أنّ معظم هذه القوى الثائرة تعرَّفت على بعضها البعض فقط أثناء الثورة، أو أنّها على العكس، حملت أدران خلافاتها السابقة، من انتفاضات سابقة إلى 17 تشرين.

17 تشرين، كانت تجربة إنسانيَّة رائدة وطبيعيَّة، فكان فيها كلّ شيء، من الإخلاص المطلق، إلى الانتهازيّة المطلقة عند البعض، مروراً بكل أنواع النوايا الحسنة وغير الحسنة والنوايا الملتبسة.

أقوى أسلحة 17 تشرين كانت قطع الطرقات، وتمكَّنت من خلال هذا السلاح من تحقيق التوازن المؤقَّت في مواجهة الميليشيات والمنظومة الحاكمة، ولكنَّ الديمقراطيَّة الزائدة التي حكمت الانتفاضة من جهة، وافتقارها للموارد والإمكانات الضروريّة للاستمرار، ودهاء الطبقة السياسيَّة الحاكمة في استغلال وجع الناس من قطع الطرقات، وثرواتها الهائلة الفاسدة التي تشتري كل الإعلام ومعظم الضمائر، وعدم إمكانية استعمال هذا السلاح – أي قطع الطرقات – كل يوم، عطّل التوازن القائم، وأعاد السيطرة للقوى الفاسدة على النظام العام.

الحلقة الوحيدة الضعيفة، كانت الحكومة التي سقطت بفعل تمكّن 17 تشرين من شق تحالف القوى السياسيَّة القائم على الباطل في مواجهة الشعب، ومهما كان موقفنا من الرئيس سعد الحريري، ومن تجربته السياسيَّة، فإن استقالته كانت العمل الوحيد من المنظومة الحاكمة الذي يحمل ذرَّة من الإحساس بآلام الناس وبمطالبهم، ومن التمرّد على الأسياد الدوليِّين والاقليميِّن المستبدِّين. كذلك من الضروري الإقرار بأنَّ آلية وسوابق سقوط أو استقالة الحكومات معروفة وسائدة، فكان من السهل جمع الثورة على المطالبة باستقالة الحكومة، ولكن الفيتو البطريركي وفيتو حزب الله، وعوامل أخرى لا تحصى، أعاقت بصورة مطلقة قدرة ١٧ تشرين على تغيير المشهد بصورة أعمق، من خلال دفع الرئاستين الأولى والثانية نحو الاستقالة، وقلب الطاولة على مرحلة ما قبل ١٧ تشرين.

17 تشرين، لم تكن مع الأجندة الأميركيّة بوضع سلاح المقاومة في طليعة المطالب، ومع ذلك فلقد كانت المقاومة – للأسف – أقوى المشكّكين والمعترضين على 17 تشرين، بدل مساندتها باعتبارها مقاومةًّ مشروعةً ضد أذناب الفساد، الذي ينهك العباد، ويخدم الأعداء الألداء الذين وجدت المقاومة لمناهضتهم ودحر مؤامراتهم.

حتى الإعلام اللبناني، تحوَّل خلال عقود من حكم المنظومة الحاكمة من ” لبنان مؤثل الحريَّات”، إلى “بوق لبعض الفساد ضد بعضه الآخر”، ولم يتمكن الإعلام اللبناني، إلا من خلال بعض الإعلاميّين المخلصين، من المشاركة في 17 تشرين ودعم أهدافها وبرامجها العادلة.

حراك العسكريّين المتقاعدين، الذي كان رائد كسر هيبة الحكام الفاسدين منذ العام 2017 حتى 17 تشرين 2019، كاد أن يقود انتفاضة 17 تشرين المشرّفة لجهوزيّته السابقة للقيادة، لولا حذر البعض في الثورة من هذه التجربة الرائدة من جهة، وقصور قيادات الحراك العسكري عن صياغة المشروع الذي يوحّدها ويوحِّد الثورة حولها.

هل انتهت 17 تشرين؟ سؤال أساسي يحق لكل مواطن طرحه، ولاسّيما بعد أن أدّت انتخابات 15 أيار 2022 إلى إعادة استيلاد منظومة الفساد الحاكمة باستثناء 13 نائباً من خارجها.

17 تشرين، لن تنتهي فلقد ولّدت وعياً وطنياً عارماً، ولاسيمّا في المغتربات اللبنانيّة المتحررة – نسبيّاً – من سطوة المنظومة الحاكمة.

17 تشرين، محطَّة وعي من مسارٍ طويل، يكفيها فخراً أنَّها كسرت هيبة المتغطرسين، وأتاحت مساحة الحوار والتساؤل حول دورهم في اغتصاب حقوق وأموال اللبنانيين، وجعلت حتّى أشد المتحمسين لهم، يهمسون في أنفسهم: متى يا ترى؟ نتخلَّص منهم ؟ وضمنت مراجعة القوى العظمى والإقليمية لمواقفها، حول صلاحيَّة هؤلاء المأجورين لخدمة مشروعاتهم ومخطَّطاتهم في المنطقة، بدليل زوال البعض عن الخريطة وقرب زوال البعض الآخر – قريباً بإذن الله.


فادي الدمشقي

– عقيد متقاعد في الجيش.
– ناشط إصلاحي واجتماعي.
– مهندس مشروع بنك لبنان الدولي لإصلاح الاقتصاد السياسي في لبنان.
– تولى بين عامي ٢٠١٧ و ٢٠١٩
– أمانة سر حراك العسكريين المتقاعدين، وأمانة سر هيئة تنسيق الثورة خلال انطلاقتها في ١٧ تشرين الأول ٢٠١٩.

اخترنا لك