بقلم غسان صليبي
قبل “طوفان الأقصى”، وقبل أن يطلق “حزب الله” “حرب إسناد غزة” بنحو سنتين، شاركني صديق شيعي قلقه حول مصير شيعة لبنان: إلى أين سنلجأ هذه المرة إذا هاجمتنا إسرائيل؟
عندما طرح عليّ السؤال، ربما كان في باله أنه سنة ٢٠٠٦ لجأ بعض الشيعة الهاربون من العدوان الإسرائيلي إلى المدن والقرى اللبنانية الآمنة غير الشيعية، كما لجأ بعضهم الآخر إلى سوريا. وعليه، كان يتساءل إلى أين سيتوجهون؟ إذا هاجمت إسرائيل لبنان مجدداً، بعد أن أصبح معظم اللبنانيين مستائين من تسلط “حزب الله” على بلادهم، وبعد أن انخرط هذا الأخير في الحرب الدائرة في سوريا ضد فئة كبيرة من شعبها، لا سيما أن معظم هؤلاء الذين سينزحون هم من يسمّيهم “حزب الله” بيئته الحاضنة، فكيف سيحتضن الآخرون من احتضن الذي تسلّط عليهم أو حاربهم؟
“حرب إسناد غزة” فاقمت من استياء معظم اللبنانيين من سياسات “حزب الله”، وتوجّسوا شراً بعد أن شاهدوا ما حصل لغزة، وعبّروا عن استيائهم علناً عبر وسائل التواصل الاجتماعي كافة. لكن “حزب الله” لم يصغِ إلى الأكثرية الساحقة من شعبه، ووصل به الأمر إلى تخوين كل من انتقده، حتى أن أمينه العام السابق تمنّى على هذه الأكثرية الا تطعن المقاومة بالظهر، متهماً إيّاها، بطريقة غير مباشرة، بالاستعداد للغدر.
بعد توسع اعتداءات إسرائيل على “حزب الله” ولبنان، منذ أكثر من شهر، وحصول موجة نزوح لأكثر من مليون شخص من الضاحية والجنوب والبقاع، تفاجأ اللبنانيون، نظراً إلى الحيثيات السياسية السابقة، بحجم الاحتضان الشعبي للنازحين الشيعة، في البيئات المذهبية الأخرى. لكن الملاحظ أيضاً للأسف أن هذه المفاجأة السارة ترافقت منذ لحظاتها الأولى مع تخوف من أن يتبع هذا التلاقي الجميل تشنجات أهلية بين الطرفين، المستقبِل والذي جرى استقباله، قد تؤدي إلى حرب أهلية. ساهم في تأجيج هذه المخاوف تعاظم أشكال الشماتة من أفراد من البيئات المحتضِنة بما أصاب “حزب الله” من ضربات موجعة، وتزامنها مع موجة تخوين جديدة من قبل أفراد من بيئة النازحين، مترافقة مع التهديد بالانقضاض على البيئات المحتضِنة بعد انتهاء الحرب.
هذا التناقض في المشاعر، بين الطمأنينة والقلق، الذي أحاط بعملية “استقبال النازحين”، يستحق التوقف عنده لمحاولة فهم مدلولاته، إذا أردنا لهذه التجربة أن تساعد في تمتين الوحدة الوطنية في جو من السلام بين أفراد الشعب، بدل أن تؤدي إلى صدام أهلي كما يتوقع البعض في الداخل والخارج.
تطرقت في كتابي “انتفاضة ١٧ تشرين” الصادر سنة ٢٠٢٠ عن دار نلسن إلى بعض إشكاليات التضامن الوطني في لبنان. يميّز دوركهايم بين “التضامن الميكانيكي” و”التضامن العضوي”. التضامن الميكانيكي هو التضامن في المجتمعات التقليدية، حيث لا يختلف الناس بعضهم عن بعض في قيمهم وأعمالهم، وتضامنهم أساسه التشابه في ما بينهم. من أشكال هذا التضامن في لبنان التضامن العائلي والتضامن العشائري والتضامن الطائفي.
أما “التضامن العضوي”، فهو التضامن على المستوى الوطني في المجتمعات الحديثة، والقائم على تقسيم العمل، الذي يجعل الناس يؤدّون وظائف مختلفة ومتكاملة في آنٍ. وهنا، يكون التضامن على أساس التكامل والحاجة المتبادلة وليس على أساس التشابه. وغالباً ما يُعبّر عن هذا التضامن من خلال الأحزاب السياسية والنقابات وهيئات المجتمع المدني، التي تضم أعضاء من كافة المذاهب والطوائف، في لبنان مثلاً.
في المجتمع اللبناني يتنافس هذان النوعان من التضامن. ولا يزال “التضامن الميكانيكي” أقوى وأفعل من “التضامن العضوي” لأسباب لها علاقة بالبنية الاجتماعية-الاقتصادية-السياسية للبلاد، وطغيان العامل الطائفي فيها، مع الإشارة الضرورية إلى أن “التضامن العضوي” برز بشكل ملموس في “انتفاضة ١٧ تشرين”، لكنه عاد وترنح تحت ضربات “التضامن الميكانيكي” المذهبي.
وإذا كان “التضامن العضوي” قد أحرز بعض التقدم قبيل حرب ١٩٧٥، فإن “التضامن الميكانيكي” عاد واستحوذ على علاقات اللبنانيين بعد الحرب التي أخذت طابعاً مذهبياً، وأدت في الوقت نفسه إلى إضعاف مؤسّسات الدولة.
هناك أيضاً عاملان اقتصاديان مستجدان في التاريخ الحديث أضافا المزيد من المعوّقات أمام “التضامن العضوي” في لبنان. الأول هو تفكك الاقتصاد اللبناني بعد حرب ١٩٧٥، حين أصبح هناك اقتصاديات مناطقية شبه مستقلة، مما يعيق الشعور بالتضامن العضوي على المستوى الوطني. أما العامل الثاني فهو نمو اقتصاديات موازية للاقتصاد اللبناني تتغذّى بالكامل من أموال تأتي من الخارج لأطراف سياسيّين في لبنان، مما يجعل العاملين في إطار هذه الاقتصاديات لا يشعرون بأنهم في علاقة “تضامن عضوي” مع الآخرين، الذين يعملون في إطار الاقتصاد الوطني. وهذا ما برز بحدة في البيئات الشيعية نتيجة التبعية الاقتصادية شبه الكاملة لـ”حزب الله” تجاه إيران، وما نتج عنها من مؤسسات عسكرية واقتصادية ومالية وتعليمية وصحية، ساهمت جميعها في بناء ما سُمّي بـ”دويلة حزب الله” المستقلّة في داخل الدولة اللبنانية.
إضافة إلى هذه العوامل الاجتماعية-الاقتصاديّة والسياسية التي تحول دون تبلور التضامن الوطني على مستوى البلاد، هناك أيضاً عوامل إيديولوجية–فكرية.
لقد طرح ليون بورجوا فكرة “الدَين الاجتماعي” La dette sociale، الذي يؤسّس للتضامن بين الناس، أي أن يشعر المواطن بأنه مَدين للذين سبقوه، وللذين يعيشون معه، بالخيرات المادية والثقافية التي يتمتع بها في حياته. فبدون ما أنتجه هؤلاء، لم يكن باستطاعة هذا المواطن أن يعيش كما يعيش اليوم.
تصطدم هذه الفكرة في لبنان بعقبات إيديولوجية. فالأفكار السائدة والمتداولة تقول للّبناني إنه مَدين لأعضاء مذهبه بما هو عليه وليس لمجموع المواطنين، وليس للدولة “المقصّرة” بالتأكيد؛ كما أن ما يتمتع به من موارد ليس نتاج بلده فقط، بل من مساعدات مالية واستيراد اقتصادي وثقافي، بسبب تبعية الاقتصاد والمجموعات الطائفية تاريخيّاً للخارج، في ظل ضعف الدولة والتشكيك في الكيان اللبناني، الذي يعتبره البعض مصطنعاً ونتاج توزيع النفوذ بين القوى العالمية.
تتعمق المشكلة أكثر مع اتهام البيئة الشيعية بتحميل البيئات الأخرى عبء الحروب وسياسات التعطيل الدستوري. في هذا السياق، يكتسب مفهوم “الدَين الاجتماعي” بعداً سلبياً. في المقابل، هناك اعتقاد سائد في أوساط الطائفة الشيعية أنه جرى تهميشها بعد نشأة لبنان الكبير، ولم تستفد مثل غيرها من الطوائف الأخرى من خيرات البلاد، وهذه الطوائف مدينة لها بالتالي، بالمعنى السلبي أيضاً. وهكذا تصطدم “مظلوميتان” وتغذّيان إيديولوجياً الصراع على السلطة بين قيادات المذاهب والطوائف. وعلينا أن ننتظر ظهور مظلومية شيعية جديدة بعد كارثة النزوح الحالية، مما سيعقّد العلاقة السياسية بين المذاهب والطوائف، خاصة إذا تكبد “حزب الله” المزيد من الخسائر.
بالرغم من كل هذه التعقيدات والمعوّقات أمام بلورة تضامنات وطنية تتخطى المذاهب والطوائف، شهدنا استقبالاً طيباً للنازحين الشيعة في البيئات المذهبية الأخرى، تخلّله بعض التشنجات الأهلية الناتجة عن صعوبات تأمين احتياجات النزوح، وآخرها تلك المتعلقة ببدء العام الدراسي واستخدام المدارس الرسمية للإيواء والتعليم في آن واحد.
في فهمنا للاستقبال الطيب الذي لقيه النازحون، يجب ألا تحجب الاعتبارات المذهبية والطائفية نزعة “التعاطف الإنساني” بين البشر جميعاً، والتي أشارت دراسات عديدة إلى تأصّلها في الإنسان. يمكن أن نضيف إليها دوافع دينية تدعو إلى المحبة، وكذلك عادات عشائرية تفرض على الناس احترام تقاليد الضيافة وحسن التعامل. وربما كان ما يحصل في بلدة دير الأحمر، التي استضافت ما يقرب من ٢٥ ألف نازح من البقاع، نموذجاً للتداخل بين هذه العوامل جميعها.
شاعت في المدة الأخيرة مقولة “ما بيشبهونا”، التي طالت مواطني الطائفة الشيعية، وانتشرت في أوساط الطوائف الأخرى. والسبب المباشر لذلك هو تبني فئة كبيرة من الشيعة المؤيدين “لحزب الله” العادات والتقاليد الدينية الإيرانية، في الفقه الديني واللباس والثقافة والممارسات اليومية. وهي عادات تختلف بشكل كبير عن العادات والتقاليد السائدة في الطوائف الأخرى، كما تختلف عما كان سائداً في الطائفة الشيعية نفسها قبل نشأة “حزب الله” سنة ١٩٨٢ على يد الحرس الثوري الإيراني.
جرى التعامل مع هذه المقولة بشكل خاطىء من الطرفين. من الجانب الشيعي، أُعتبرت المقولة تمايزاً فوقياً وعنصرياً، مع إنكار للاختلافات؛ من جانب الطوائف الأخرى نُظر إلى الاختلافات وكأنها عيب لا تنوع يجب احترامه.
أظهرت الدراسات النفسية-الاجتماعية أن الاختلاط بين الجماعات الإنسانية، التي تعاني من التمييز والعنصرية في ما بينها، يساعد في تخطّي الأفكار المسبقة، ويسهّل عملية التخلّي عن المواقف العنصرية. لكن العقبة الرئيسية أمام ذلك هي أن المواقف العنصرية بين الجماعات، غالباً ما تخفي علاقات هيمنة بينها، تتلطّى خلف الأفكار السائدة؛ وهذا ما يتطلب معالجات خاصة، وحدها الدولة قادرة على القيام بها، باعتبارها التي تتحكم بتنظيم علاقات السلطة بين الجماعات المختلفة المكونة للإطار الوطني.
طيف الدولة موجود في جميع مفاصل هذا النص؛ فهي التي رعت اللقاءات بين النازحين والبيئات الحاضنة، من خلال ممثليها في الحكومة والمجلس النيابي والبلديات؛ وهي التي قدّمت مدارسها ومؤسساتها كمراكز للإيواء؛ وهي التي تنظم وتشرف على تقدير الاحتياجات وتوزيع المساعدات، بالرغم من ترهّلها وعجزها الإداري والمالي.
الشرط الناظم للعلاقات بين الجماعات هي الدولة. وعندما نتكلم عن الانتقال من “التضامن الميكانيكي” إلى “التضامن العضوي” نفترض وجود دولة تنظم أشكال هذا التضامن على المستويات كافة، لا سيما على المستوى الوطني؛ وعندما نفكر في “الدَين الاجتماعي” إنما ندركه في إطار المساحة الوطنية التي تديرها الدولة.
وحدها الدولة قادرة على حماية هذه الطمأنينة التي وفّرها استقبال النازحين في البيئات المختلفة، ووحدها قادرة على منعها من التحول إلى قلق يساور الجماعات المتلاقية، بشأن تطور علاقاتها في المستقبل إلى ما يشبه النزاع الأهلي. وهذا لن يكون فقط من خلال حفظ الأمن من قبل القوى الأمنية الرسمية، بل من خلال ترجمة هذه النزعة الإنسانية للتلاقي والتآخي إلى تدابير سياسية، تقود أولاً إلى التوافق على انتخاب رئيس للجمهورية، وتأليف حكومة تجسّد هذا التوافق وتعمّمه بين فئات الشعب.
علا أخيراً صوت “الثنائي الشيعي” منتقداً تقصير الدولة في مجال العناية بالنازحين. لا حاجة إلى تذكير “الثنائي” بأنه كان يقود هذه الدولة المقصّرة طوال السنوات الأخيرة، وأنه كان يقودها للأسف من خلال تعطيل المؤسسات الدستورية. مع ذلك، فلننظر بإيجابية إلى عودته “الاجتماعية-الاقتصادية” إلى الدولة، ولنتمنّى عودته “السياسية” في القريب العاجل، بدءاً بتسهيل انتخاب رئيس للجمهورية بدل تعطيل العملية الانتخابية كما كان يفعل في السابق. ولعلني سأعالج هذه الإشكالية في المقال اللاحق، لا سيما إشكالية عودة “حزب الله” تحديداً إلى الدولة.