تشرين الحنين والوجع

كتب الطبيب إبراهيم فرج من داخل أحد المستشفيات في مدينة صور

شهران وأنا قابعٌ في المستشفى. قبلها ما يُقارِبُ الخمسينَ أسبوعاً لم أُغادِر منطقتَه. يتساقطُ المطرُ التشرينيُّ الخفيف، الأحبُّ على حبّاتِ الزّيتونِ المُتَعَجِّبةِ من طولِ مدّةِ انتظارِ قِطافِها. يغسلُ ذاتُ المطرِ أقراطَ الموزِ التي ترشَحُ عَسَلاً، وحبّاتِ اللّيمونِ التي تَنَشَّقَت مُعظمَ غُبارِ الحِممِ في مُحاولةٍ للتخفيفِ والزّودِ عن رِئاتِ الجنوبيّينَ الباقينَ هنا.

ترتَطِمُ حبّاتُ المطرِ بأديمِ الأرضِ، فينبعثُ منها عَبَقٌ لا يَفُكُّ رموزَهُ سوى الضّالعينَ في حُبِّ هذهِ البسيطةِ وكيميائِها. يطغى عَرَقُ الفلّاحينَ ودُموعُهم الطّيِّبةُ على ما عداهُ من سُمومِ القذائفِ والقنابلِ، وتفوحُ أرواحُ الشّهداءِ المُقاومينَ منهم والمَدَنيِّينَ العُزَّلِ، المُنتشِرةِ على الأشجارِ والأرصفةِ، وفوقَ كُتلِ الإسمنتِ المُهدَّمةِ وتحتَها.

يا شهرَ تشرين، أتوسَّلُ إليكَ، أبرِقْ وأرعِدْ ما شِئتَ وبِهُدوءٍ، لأنَّنا سَئِمْنا أصواتَ آلاتِهم العسكريّةِ الهَمَجيّةِ الخَرْقاء. أَمطِرْ علينا بحَنانٍ ولُطفٍ، رأفةً بالنّازحينَ إلى مناطقَ لم يَتعوَّدوا على مناخِها، وعطفاً على بيوتاتِهم المُتروكةِ والمُخلَّعةِ، وسيّاراتِهم المَركونةِ عَشوائيّاً على الطُّرُقات، المُشَرَّعةِ أبوابُها وشَبابيكُها لِمَهَبِّ الرِّيحِ والماءِ والعَواصِفِ وضَياعِ العُمرِ.

يا تشرين، اسألْ كُلَّ أشهرِ السَّنةِ وفُصولِها، فهُمُ الأجدَرُ بإخبارِكَ حكايةَ جَلجلَتِنا المُتواصِلةِ بدِقّةٍ أكثرَ وفَهمٍ أعمقَ، فيَهمسونَ لكَ بطريقةِ التصرُّفِ والأداءِ.

أنا أُحِبُّ هذهِ الأرضَ وأعشَقُ جميعَ قاطِنيها المُسالِمينَ الطّيّبينَ. لكنَّني ومُنذُ صِغَري، أنبُذُ نَبذاً حازِماً قولاً مُشاعاً، مُزوَّراً وبائساً، يربطُ بينَ نَقيضَين: “ومِنَ الحُبِّ ما قَتَلَ”.

اخترنا لك