العودة إلى البيت

بقلم عقل العويط

“لو أمطرت السماء حرّيّة، لرأيت بعض العبيد يحملون المظلّات”

يُنسَب هذا القول إلى إرنستو تشي غيفارا. وقد قاله على الأرجح بشيءٍ من مرارةٍ وغضب، وهو يرى أمامه إلى بعض عبيد بلاده والعالم وكانوا لا يزالون يعشقون عبوديّاتهم وأصنامهم وحكّامهم، ولا ينتفضون ضدّ أغلالهم، أكانت هذه الإغلال ديكتاتوريّة، سياسيّة، مجتمعيّة، اقتصاديّة، دينيّة، أم… ثقافيّة – فكريّة – إيديولوجيّة.

تذكّرت هذا القول، وأنا أتمشّى صباح هذا اليوم، حسير الرأس، مع صديقي كوبر، تحت رذاذٍ خفيفٍ من المطر.

ليس ثمّة ما يلائم إسقاط هذا الكلام الثوريّ على الواقع اللبنانيّ، حيث السماء لا تمطر عندنا حرّيّةً بالطبع. بل محض مطر اللعنة. والموت. والخراب. والعدم.

لكنْ، على سيرة هذا القول، وسيرة مغازيه ودلالاته، يهمّني أنْ ألفت كثيرين من أبناء بلادي، إلى أيّ جهةٍ وتفكيرٍ انتموا، وخصوصًا منهم عشّاق التشفّيات والمهاترات والمزايدات والعنتريّات على مواقع التواصل الاجتماعيّ، والتلفزيونات، ووسائل الإعلام الأخرى، إلى أنّ السماء، في كلّ الأحوال، لن تمطر علينا حرّيّةً يحملها إلينا خارجٌ ما، أيًّا يكن هذا الخارج، إيرانيًّا أكان أم أميركيًّا أم أوروبيًّا، أم سوى هؤلاء. ولن يكون بالطبع إسرائيليًّا. قطعًا لا. وبالثلاث.

إذا كان ثمّة حرّيّةٌ قد تمطرها علينا سماءٌ ما، فهي سماء الداخل التكوينيّ اللبنانيّ. وحدها هذه السماء دون سواها، بتكوينات غيومها جميعًا، يمكنها (بالتذكير والتأنيث) أنْ تتهيّأ موضوعيًّا لمثل هذا المطر. عارفًا ومدركًا في الآن نفسه، أنّ سماء هذا الداخل مريضة للغاية، وليست على ما يرام، وأنّ غيومها قد تكون على شفا العقم، و”منضامة” (من الضيم، أي على فراش الحشرجة)، وهذا ليس من شأنه أنْ يفسح الأمل باحتمال حبلها بمطر الحرّيّة.

لكنّ مطر سمائنا ليس مستحيلًا، ولا محكومًا عليه بالموت، وإنْ كان يحشرج.

المهمّ الحكمة. أنْ لا يحمل بعضنا المظلّات، من هنا وهناك، إذا حبلت غيومنا. وقد تحبل. وفي الكتاب “ليس عند الله أمر عسير”. علمًا أنّ المسألة اللبنانيّة، مسألة الحبل اللبنانيّ، ليست إلهيّة، ولن تكون إلهيّة، ولا غربيّة ولا شرقيّة، بل محض بشريّة، وداخليّة، وبزرعٍ تكوينيٍّ لبنانيٍّ محض.

في خضمّ هذا العدم العميم، الذي يلفّ بلادنا ووجودنا ومصيرنا أجمعين، ثمّة حاجةٌ لبنانيّةٌ ماسّةٌ إلى العقلانيّة الداخليّة. وهذا يتطلّب على الفور عدم الاستظلال بالمظلّات الأجنبيّة الغريبة، قريبةً أكانت أم بعيدة. وأكرّر: لا إيرانيّة، ولا أميركيّة، ولا أوروبيّة، ولا سواها، وطبعًا لا إسرائيليّة. وقطعًا. وبالثلاث.

قال لي صديقٌ يربطني به أكثر من خمسين عامًا صداقةً، إنّ رسالتي العاجلة إلى “حزب الله” واللبنانيّين و”أوادم العالم” ربّما كانت تصلح قبل شهرين وقد فات أوانها.

لا أزال آمل بأنّ الأوان لم يفت لطلب استسقاء سماء الداخل. الاحتكام إلى مولانا العقل – أكرّر العقل الوطنيّ التكوينيّ اللبنانيّ – قد يكون مفيدًا أنْ يُتفَكَّر فيه بعناية، ووعي، وتعقّل، وتهيّب. وإنْ تطلّب ذلك منّا جميعًا ما يشبه عودة الإبن الضالّ إلى بيتنا اللبنانيّ، الذي لا سقف يحمينا إلّاه.

اخترنا لك