بقلم عقل العويط
وقعتُ أمس على خورخي لويس بورخيس، وأنا مستغرقٌ في مكتبته الكونيّة، هو الذي كان “يرى” بعقله أنّ كلّ مكتبة هي صفعةٌ في وجه العالم الجاهل. و”يرى” أنّ مكتبةً، وإنْ بثلاثة كتب، لا بدّ أنْ تقاوم جزءًا من قباحة العالم.
هذا العالم قبيح، يا خورخي. شروره، مفاسده، عيوبه، فجائعه، وهزائمه، أكبر من أنْ تُحتمَل. فكيف إذا كانت تسرق ما يحبّه المرء، وما يطمح إليه، ويحلم به.
لا بدّ، والحال هذه، من أنْ أعيش مأساتي، يخاطب الكائن ذاته. لا بدّ من فترة “حداد”. فالمآسي لا تُنسى بين ليلةٍ وضحاها. ولا تُطوى بمنديل. ولا بإسدال ستارة.
الآن، في هذه اللحظة الحارّة، يصعب عليَّ، أنا الكائن، أنْ أتقبّل الوقائع. أنْ أعترف، بيني وبيني، أو علنًا، بأنّي “شفيتُ” من فقدي أختًا وصديقًا، أو خسراني حبًّا، مالًا، بيتًا، أو حربًا. وبأنّي تخطّيتُ هذه الهزيمة، هذا الفقدان.
شيءٌ ما في داخلي، أقوى منّي، يستولي على المنطق لديَّ، ويشوّش وعيي العميق بالأشياء، بالأمور، بالناس، والحوادث. قوّةٌ ما، انفعاليّةٌ واعية أو لاواعية، تمنعني من الإقرار بالخسارة، بالفقد، بالهزيمة، فأروح أسلس القياد للهذيان، للتوهّم، للغضب، وأخترع وقائع غير واقعيّة، وأستخلص نتائج غير قابلة للتصديق. وأحيانًا أهرب إلى الأمام. إلى الوراء. وحينًا أتعامى. وقد أرتكب الهفوات والخطايا، جرّاء ما أنا واقعٌ تحت سطوته، أو منقادٌ إليه.
علمًا أنّ كلّ المعطيات الموضوعيّة المتوافرة بين يديَّ، تدعوني إلى الإقرار بأنّ الحقيقة هي غير ذلك تمامًا، وتمدّني بنور العقل لأسلّم بها، وبالنتائج المترتّبة عليها.
تنطبق هذه الحال، على التجارب الشخصيّة، كما على التجارب العامّة، سواء بسواء.
رأيتُ بورخيس يتحدّث عن شيءٍ من هذا القبيل. وأعتقد أنّه كان يومئ إلى تجارب شخصيّة واجهها، ولا بدّ، أحد معارفه (أو هو نفسه)، في حياته.
يقول: “بعد فترة، تبدأ بتقبّل هزائمكَ برأسٍ مرفوع وليس بحزن طفل، وتزرع حديقتكَ بدل انتظار أحدهم ليهدي إليكَ وردة، وتتعلّم وتتعلّم، ومع كلّ وداعٍ تتعلّم”.
صحيح، يا خورخي. الآن، وقت الإنكار. لكنْ “بعد فترة”، أتقبّل هزائمي. تلزمني “فترة حداد”. وحده “الوقت” يصالحني مع العقل. الوقت يعلّمني، ويُنضِجني، فأتصالح مع الذات والموضوع والآخر.
لا أحد يستطيع أنْ يرضخ فورًا لضياع حبٍّ أهرق عمرًا في ريّ وردته المستحيلة، ليعود يواصل أيّامه كما لو أنّ الحياة ستظلّ هي نفسها الحياة. كيف يمثل أمام فؤاده، أمام عقله، وكيف يجلس إلى مائدة طعامه، ويذهب إلى أعماله، كما لو أنّ شيئًا لم يحصل؟
مَن يستطيع أنْ يتحمّل موت كائنٍ عزيز، من مثل أنْ تخسر أمٌّ وحيدها، أو أخٌ أخته، ثم يخلد إلى مخدّته، بسلاسةِ مَن يستسلم لسلطان الكرى والحلم؟
ليس يسهل على المرء أنْ “يبلع موس” فجيعته، أكانت مادّيّةً أم معنويّة، فرديّةً أم جماعيّة، مهما يكن حكيمًا وواقعيًّا.
مَن منّا يردم – فورًا – دم فجيعته بمنديل، ولا ينظر إلى الوراء؟!
الإنكار حدادٌ أيضًا. لا بدّ من وقتٍ للحداد.