مانيفست ليُتلى ويُذاع

بقلم عقل العويط

الأبد ليس أبدًا.

الأرض التي تحتنا، تهتزّ. أصنامٌ تدوخ. تتهاوى. آلهةٌ تمرض. تشيخ. تموت.
كوابيس الشرق الأدنى والخرائط على الطاولات.

بعد قليل، بعد برهةٍ وبرهتَين، يوضَع الشرق الأوسط برمّته تحت المجهر.
مَن قال إنّ ما يجري هو حقًّا يجري.

مَن قال إنّ سوريا بغمضة عين يصير فيها ما يصير.

ولبنان، ها الذي جرى منذ ثلاثة أشهر، ولا يزال يجري في لبنان، مَن قال. مَن قال.

وغدًا، أيّ غدٍ. وأيّ مصير.

في الهزيع الأخير من الليل، قبل الشروق، يُنتظَر الشروق. وللقهوة مع الفجر مذاقٌ خاصّ. وشروق.

والذين ينتظرون منذ أربعين عامًا، منذ خمسين، يجب أنْ يحقّ لهم ما يحقّ لهم. وأنْ يتنفّسوا قليلًا كثيرًا. أكثر من الكثير. وأنْ يخرجوا من القبور.
ولمرّةٍ واحدة عن الأوقات والأزمنة والمرّات كلّها.

ها هو اللّامعقول معقولًا. ما لا يُصدَّق، يُصدَّق.

للتأمّل في العِبَر وحوادث الدهر ضروراتٌ مطلقة.

وليس الوقت وقت دمٍ وثأر. ولا وقت انفعالاتٍ وغرائز. ولا للكيد والتشفّي، ولا أيضًا لترّهات وسائل التواصل الاجتماعيّ.

ولا الوقت للظلاميّات والعنصريّات.

وأعترف بأنّه يستحيل على المرء أنْ يقول ما يعنيه بالضبط.

يستحيل.

كلّ ما يقوله الكائن، إنّما يقوله على وجه التقريب، عن الضفّة التي تنتظر النهر منذ أبدٍ ونيّف.

أمّا النهر، والجثّة التي ينتظرها النهر، فمسألةٌ أخرى. وهي مسألة المسائل.

أمامنا أيّامٌ صعبةٌ وماحقةٌ ومهلكةٌ، في لبنان، في سوريا، في الشرق الأدنى، وفي الشرق الأوسط.

حكّامٌ وأنظمةٌ كثرٌ يتحسّسون رقابهم والكراسي.

بعد يومٍ ويومين، ما يُعتقَد أنّه مستحيل الحدوث، قد لا يعود مستحيلًا.

لكن. ثمّ لكن.

يجب أنْ لا تهلكنا الأيّام الآتية، لأنّها صعبةٌ وماحقةٌ ومهلكة.

ويستحيل أنْ أقول ما أعنيه بالضبط. يستحيل.

كلّما حاولتُ أنْ أقول ما أعنيه، قلتُ الشيء الذي على مقربة، لا الشيء الذي أعنيه.

يحتاج المرء إلى كلّ ما يعتمل من قوى الاستشراف في وعيه، في اللّاوعي، في العقل، في العقل الباطن، في الحلم، في الخيال، في الهجس، في الحدس، ليقترب قوله ممّا يريد أنْ يعنيه.

ولا يستطيع.

كتب الشاعر أنسي الحاج في مستهلّ “الرسولة بشعرها الطويل حتّى الينابيع”: “ليكن فيَّ جميع الشعراء لأنّ الوديعة أكبر من يديَّ”. وهو يقصد وديعة الحبّ.

وكتب الشاعر الإنكليزيّ تي. أس. إليوت، “يستحيل عليَّ أنْ أقول ما أعنيه بالضبط”. فالقول لا يصل إلى المعنى، لأنّه شعرٌ خالص.

وإذا ثمّة مانيفست يُتلى ويُذاع، فيجب أنْ يكون هذا هو، مجلببًا بالعقول والأفئدة كلّها، وبرؤى العقلاء والفلاسفة والحكماء والشعراء أجمعين : إنّما الأمور بالعقل. بضوء العقل. بالتروّي. بالحكمة. بالتنبّه. باليقظة. وتؤخَذ بالتبصّر. بالرؤيا. وبالاستشراف.

والخطأ لا يجوز. ولا الارتجال أيضًا. ولا سوء التدبير.

واليوم، وغدًا، في لبنان، يجب أنْ لا يرتكب أحدٌ خطأً، صغيرًا أو كبيرًا. ولا حتّى هفوة. ولا أيّ هفوة.

أكان المعنى المقصود هو الدولة والدستور والقانون والرئاسة والحرّيّة والتنوّع و… السلاح، أم كان سوى ذلك. وهو كثير.

وهذا هو المانيفست. ولا مانيفست سواه.

وهو ليُتلى. ويُذاع.

اخترنا لك