بقلم د. كولشان يوسف صغلام
في 18 كانون الأول (ديسمبر) 2024، شهدت العاصمة التركية أنقرة لقاءً دبلوماسيًا بارزًا بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس حكومة تصريف الأعمال اللبناني نجيب ميقاتي. هذا اللقاء الذي اتسم بالتركيز على قضايا الأمن والاستقرار الإقليمي، يعكس عمق العلاقة بين البلدين، ويرسم ملامح شراكة استراتيجية تنمو وسط التحديات السياسية والأمنية التي تواجه منطقة الشرق الأوسط.
دلالة الاستمرارية في الشراكة الاستراتيجية،في تصريحاته خلال اللقاء، أكد الرئيس رجب طيب أردوغان دعم تركيا الثابت للبنان في جميع المجالات، مشددًا على أن استقرار لبنان، وسوريا، وفلسطين هو جزء لا يتجزأ من استقرار المنطقة ككل. هذا الموقف التركي يأتي في وقت حساس، حيث يعاني لبنان من أزمة اقتصادية حادة في ظل التوترات السياسية والأمنية، لا سيما الاعتداءات الإسرائيلية المستمرة التي تطال الأراضي اللبنانية. ومن جانبه، عبّر رئيس الحكومة اللبناني نجيب ميقاتي عن شكره العميق لهذا الدعم التركي، مشيرًا إلى الدور الحاسم لتركيا في مساعدة لبنان في مواجهة الأزمات الراهنة.
عوامل العلاقات التركية اللبنانية: تاريخ وجغرافيا وتأثيرات إقليمية، العلاقات بين تركيا ولبنان تمتد عبر تاريخ طويل يعود إلى حقبة الدولة العثمانية، حيث كانت لبنان جزءًا من الإمبراطورية العثمانية. هذا الإرث التاريخي والثقافي يعزز الروابط الاجتماعية بين الشعبين، حيث يقدر عدد ذوي الأصول التركية الذين يعيشون في لبنان بحوالي 50,000 شخص، فيما يُعد التركمان اللبنانيون جزءًا من الهوية التركية الثقافية، إلى جانب ارث العمارة العثمانية.
على الرغم من عدم وجود حدود مباشرة بين البلدين، إلا أن تركيا تعتبر لبنان دولة جوار جيوسياسية، حيث لبنان يقع في قلب منطقة الشرق الأوسط المضطربة التي تشهد تحولات استراتيجية كبرى، ولا سيما في ظل الأزمات السياسية والإنسانية التي يشهدها الجوار السوري والفلسطيني. تركيا، التي أصبحت لاعبًا رئيسيًا في هذه التحولات، ترى في استقرار سوريا و لبنان ركيزة أساسية لاستقرار المنطقة ككل.
العلاقات الاقتصادية: من التبادل التجاري إلى الشراكة الاستراتيجية فيما يتعلق بالعلاقات الاقتصادية بين البلدين، فإن لبنان يُعتبر شريكًا تجاريًا مهمًا لتركيا في منطقة شرق المتوسط. التبادل التجاري بين البلدين يغطي العديد من القطاعات مثل الصناعات الغذائية، البناء، والزراعة، بالإضافة إلى أن النقل البحري بين الموانئ اللبنانية والتركية يسهم في تعزيز التجارة الثنائية. على الرغم من الأزمات السياسية والاقتصادية التي يعاني منها لبنان، إلا أن تركيا تُمثل شريكًا استراتيجيًا طبيعيًا للبنان في جهود إعادة تأهيل اقتصاده وتنمية بنيته التحتية.
وتظهر البيانات الاقتصادية أن التعاون بين الشركات التركية واللبنانية يحقق نموًا مستدامًا في مجالات مثل البناء والطاقة المتجددة وتكنولوجيا المعلومات. تركيا، التي تسعى إلى تعزيز حضورها في الأسواق العربية، تعتبر لبنان بوابة مهمة للوصول إلى أسواق أخرى في المنطقة.
الدور التركي في القضايا الإقليمية: تركيا أصبحت مفتاح الأمن والاستقرار فيما يتعلق بالقضايا الإقليمية، تتداخل العلاقات التركية اللبنانية مع التحولات الكبيرة التي تشهدها المنطقة. ففيما يخص الأزمة السورية، تعد تركيا الفاعل الأساسي في إيجاد حلول سياسية وعسكرية تضمن الاستقرار الإقليمي، بالإضافة إلى مشاركتها البارزة في عمليات إعادة الإعمار في سوريا. كما تؤكد تركيا على سيادة سوريا ووحدة أراضيها، مُعربة عن رفضها لأي محاولات لتقسيمها أو دعم تنظيمات انفصالية على أراضيها. و هذا ينعكس بشكل مباشر على استقرار و سيادة لبنان.
أما فيما يخص القضية الفلسطينية، فقد بذلت تركيا جهودًا كبيرة لدعم حقوق الشعب الفلسطيني ووقف الاعتداءات الإسرائيلية. هذا الموقف يتوافق مع الموقف اللبناني الذي يرفض أي تعدٍ على سيادة لبنان وحقوق الفلسطينيين في الأراضي المحتلة.
الأفق المستقبلي: من التحديات إلى الفرص لبنان بحاجة لمحيطه العربي والحيوي وتركيا تعد في محيط لبنان الحيوي، و في موقف دقيق يتطلب دعمًا دوليًا مستمرًا في مواجهة التحديات الأمنية والاقتصادية. ومع استمرار التصعيد في بعض الأزمات الإقليمية، تُمثل تركيا شريكًا استراتيجيًا لا غنى عنه للبنان، نظرًا لدورها البارز في التأثير على المحافل الدولية وعلاقاتها الواسعة مع الدول العربية والغربية، حيث كان قد أشار لذلك الرئيس ميقاتي في انقرة. ويمكن لأنقرة أن تلعب دور الوسيط في القضايا اللبنانية والإقليمية، من خلال الضغط على المستوى الدولي لتعزيز استقرار لبنان الداخلي ومساعدته في تجاوز أزماته الاقتصادية.
على المستوى الاقتصادي، تُمثل العلاقات بين البلدين فرصة واعدة للنمو المستدام. فمن خلال تعزيز التعاون في قطاعات جديدة مثل الطاقة المتجددة، السياحة، وتكنولوجيا المعلومات، يمكن أن تُفتح آفاق جديدة للتعاون بين البلدين، مما يساهم في تعزيز التنمية المستدامة للبنان. كما أن تركيا قد تقدم الدعم الفني والمالي لمساعدة لبنان في إعادة بناء بنيته التحتية وتحقيق الاستقرار المالي.
ختامًا: شراكة استراتيجية بُعدها الإقليمي والدولي، تُظهر العلاقات التركية اللبنانية تطورًا مستمرًا في إطار شراكة استراتيجية تهدف إلى تعزيز الاستقرار الإقليمي والدولي. هذا التعاون لا يقتصر على الجوانب السياسية أو الاقتصادية، بل يتعداها ليشمل أبعادًا ثقافية واجتماعية تربط الشعبين بروابط تاريخية عميقة. في ظل التحولات الإقليمية الكبرى، لا شك أن أنقرة ستكون عنصرًا رئيسيًا في مستقبل لبنان، وأن الشراكة بين البلدين إلى جانب استقرار سوريا ستظل أساسًا لتحديد ملامح الاستقرار الإقليمي في منطقة شرق المتوسط.