بقلم نجم الهاشم
اغتيال الأمين العام لـ “حزب اللّه” السيد حسن نصرالله في 27 أيلول يبقى حدث العام 2024 في لبنان. في 8 كانون الأول نافسه حدث انهيار نظام بشار الأسد في سوريا وفراره إلى روسيا. حدثان هزّا لبنان والعالم العربي وجعلا العام 2024 واحداً من الأعوام القليلة التي شهدت تحوّلات جذرية في تاريخ الدول والعالم. حدثان سيظلان راسخين في التاريخ لإعلان نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة قد تشكل انقلاباً على ما سبق مع علامة استفهام حول ما سيأتي بعده وحول صورة الشرق الأوسط الجديد.
قليلة هي الأعوام التي سُجِّلت كمحطات لا يمكن القفز فوقها وبقيت محفورة في ذاكرة الأجيال وكتب التاريخ. عملية “طوفان الأقصى” التي نفذتها حركة “حماس” في غلاف قطاع غزة ضد إسرائيل في 7 تشرين الأول 2023 كانت الشرارة التي صنعت عملية التغيير الكبرى التي لا تزال تشهدها المنطقة لتسجل أعلى نسبة اهتمام عالميّ قياساً على أحداث كثيرة سابقة يمكن أن توازيها في الأهمية حصلت منذ مئة عام تقريباً:
ولادة الشرق الأوسط
• عام 1918 شهد مع نهاية الحرب العالمية الأولى نهاية الإمبراطورية العثمانية والخلافة الإسلامية، ورسم أول خريطة للشرق الأوسط والعالم العربي مع ولادة لبنان وسوريا والعراق وفلسطين ومصر… يحكى كثيراً عن اتفاقيات سايكس – بيكو بين فرنسا وبريطانيا وعن أنها كانت وراء رسم هذه الخريطة ولكن في الواقع لم تكن هذه الاتفاقيات تعني إلّا لبنان وسوريا والعراق وفلسطين بينما حدود الدول الأخرى وأنظمتها بقيت خارجها. وعلى الرغم من مرور أكثر من مئة عام، لم تتغير الحدود بل تغيّر الكثير من الأنظمة ولعلّ ما يحصل اليوم من تطوّرات لا يخرج عن إطار هذا المفهوم القائم على ثبات الحدود وتبديل الأنظمة.
• عام 1948 حصل انقلاب ثانٍ في الشرق الأوسط تمثل بقيام دولة إسرائيل. لم يكن ممكناً توقع أن يتمكن اليهود المنتقلون إلى فلسطين من تأسيس دولة لهم بعد ثلاثين عاماً فقط على الوعد الذي تعهد به وزير خارجية بريطانيا آرثر بلفور في رسالته في 2 تشرين الثاني 1917 إلى اللورد ليونيل دي روتشيلد أحد أبرز أوجه المجتمع اليهودي البريطاني. فور انسحاب القوات البريطانية من فلسطين في 15 أيار 1948 قامت الصيغة الأولى للدولة الإسرائيلية، وهي التي لا تزال تشهد تحوّلات تعيد رسم خريطة الشرق الأوسط في محطات كثيرة لم تنته بعد. وليست محطة ردة الفعل على عملية “طوفان الأقصى” هي الصيغة النهائية لها.
حروب وانقلابات
• عام 1967 شهد أكبر تحوّل في الصراع العربي الإسرائيلي عندما احتلت إسرائيل هضبة الجولان وصحراء سيناء والضفة الغربية والقدس. صعود الدولة الإسرائيلية ترافق مع تداعيات كارثية في العالم العربي وانقلابات لم تنته ذيولها. وليست تطورات العام 2024 إلّا نسخة منقحة عنها وترددات لبركان قيام دولة إسرائيل المتفجر الذي لا يخمد لفترة إلّا ليثور من جديد.
• هذه الهزات الارتدادية خلقت موجة انقلابات بدأت في سوريا مع حسني الزعيم عام 1949 وتكرّرت في مصر مع الضباط الأحرار وجمال عبد الناصر عام 1952، وتتالت في العراق مع انقلاب عبد الكريم قاسم ضد الحكم الملكي، قبل وصول حزب البعث إلى السلطة عام 1968 ومعه إمساك صدام حسين بالقرار منذ العام 1978. وتمثلت الهزات أيضاً بانقلاب عبدالله السلال في اليمن عام 1962 مدعوماً من عبد الناصر، وانفجار الصراع هناك حرباً بين نظامه والمملكة العربية السعودية. وتمثلت أيضاً بانتصار ثورة الجزائر عام 1962، وبانقلاب العقيد معمّر القذافي على الحكم الملكي في ليبيا عام 1969. تلك الانقلابات أنهت أنظمة الملوك فاروق في مصر وفيصل في العراق والسنوسي في ليبيا وفشلت في هزّ عرش المملكة العربية السعودية وعرش الملك حسين في الأردن، ونصّبت “ملوكاً” في جمهوريات “ثورية” قامت على خلفية الصراع مع إسرائيل ووعدت بالنصر ولكنها انتهت أيضاً بهزائم وانكسارات كبيرة.
• انتهى عبد الناصر بوفاة طبيعية عام 1970 وذهبت بعده مصر إلى اتفاقية السلام مع إسرائيل مع الرئيس أنور السادات الذي دفع الثمن إذ اغتيل عام 1981 ليخلفه الرئيس حسني مبارك الذي استمرّ في الحكم حتى الربيع العربي واضطراره إلى التنازل عن السلطة عام 2011. الزعيم الليبي معمر القذافي سقط أيضاً تحت ضغط الشارع وانتهى مقتولاً في 20 تشرين الأول 2011. الثورات العربية أنهت حكم الرئيس زين العابدين بن علي في تونس وحكم الرئيس بوتفليقة في الجزائر ودقّت أبواب دمشق ولكن هناك كانت مرحلة مختلفة.
بين أصوليتين سنية وشيعية
• عام 1978 شهد تحوّلين رئيسيين تمثلا باحتلال الاتحاد السوفياتي أفغانستان وولادة القوى الإسلامية الأصولية السنية المقاومة له. ومعها بدأت طلائع هذه القوى تنطلق من أكثر من دولة عربية مع انطلاق ما سمّي الأفغان العرب الذين فرّخوا تنظيمات كانت أبرزها “القاعدة” بقيادة أسامة بن لادن. في المقابل وُلِدت في إيران أصولية شيعية عام 1979 مع عودة الإمام الخميني إلى طهران. أصوليتان دينيتان متشدّدتان ستعيدان صياغة المشهد في الشرق الأوسط.
• عام 1982 شهد الاجتياح الإسرائيلي الكبير للبنان وخروج منظمة التحرير الفلسطينية ورئيسها ياسر عرفات منه ليبدأ عصر جديد من التحوّلات التي كانت ولادة “حزب الله” في لبنان جزءاً منها. ذهب أبو عمار إلى اتفاقات سلام “أوسلو” مع إسرائيل عام 1993 بينما كانت تولد على الساحة الفلسطينية مقاومة أخرى تمثلت بحركتي “حماس” و”الجهاد الإسلامي”.
• في 11 أيلول 2001 اهتزّ العالم على وقع غزوة نيويورك والعمليات الانتحارية التي نفذها تنظيم “القاعدة”. الردّ الأميركي كان في اجتياح أفغانستان وإسقاط نظام “حركة طالبان” ثم في اجتياح العراق وإسقاط نظام الرئيس صدام حسين عام 2003 الأمر الذي فتح منطقة الشرق الأوسط على تغيير كبير.
الأسد و “حزب اللّه”
• وصل حافظ الأسد إلى الحكم في سوريا عام 1970 بعد الانقلاب على رفاقه الضباط وشركائه في انقلاب حزب “البعث” عام 1963، وتحوّل إلى ملك غير متوَّج حتى وفاته عام 2000. وقّع بعد حرب تشرين 1973 اتفاقية هدنة مع إسرائيل وأرسل جيشه إلى لبنان منذ العام 1976. خلفه ابنه بشار ليكمل عهد آل الأسد. مع العام 2011 اهتزّ النظام تحت ضغط الشارع ولكنه على عكس ما حصل في مصر وليبيا وتونس والجزائر خاض حرباً ضد المعارضين له مستعيناً بالنظام الإيراني وبدعم من “حزب اللّه” قبل أن يبدأ الدعم الروسي منذ العام 2015.
• شكل السيد حسن نصراللّه عصب الأذرع الإيرانية خارج إيران. منذ العام 1992 انخرط في سلسلة حروب مع إسرائيل وصولاً حتى حرب تموز 2006 التي انتهت بالقرار 1701 الذي نصّ على استعادة سيادة السلطة اللبنانية على كامل أراضيها ونزع سلاحه بموجب القرار 1559. ومنذ العام 2011 تولّى نصرالله مهمة الدفاع عن نظام الأسد ليحيي بذلك هواجس التاريخ والجغرافيا في الصراع بين السنة والشيعة في محاولات يائسة للانتقام من موقعة كربلاء ونصرة الإمام الحسين.
إسرائيل و “طوفان الأقصى”
• عملية “طوفان الأقصى” غيّرت المعادلات التي قام عليها الشرق الأوسط. “حزب اللّه” و “حماس” لم يتوقّعا ردة فعل إسرائيلية قاضية لحماية حدودها عبر تغيير حدود وأنظمة الدول المحيطة بها. هكذا كانت الحرب المعاكسة قاضية على “حماس” وعلى “حزب الله” الذي دفع ثمناً غالياً باغتيال أمينه العام وأسطورته حسن نصرالله ومعظم قادته الأمنيين والعسكريين ما اضطره للقبول باتفاق وقف النار الذي ينصّ على نزع سلاحه في شكل واضح.
• في 8 كانون الأول اكتمل مشهد التغيير بسقوط نظام الأسد واستكمال الطوق ضد “حزب اللّه” وإسقاط استراتيجية وحدة الساحات التي عملت عليها طهران ونهاية نظرية الهلال الشيعي مع انتصار المعارضة السورية بوجهها الأصولي السني ودخول أحمد الشرع إلى دمشق في تعبير واضح وحاسم لانكسار مشروع إيران التي تواجه خطر التغيير بعد انتهاء مفاعيل قيام نظامها ووظيفته بعدما خلق عداوة معه أكبر من العداء لإسرائيل جعلت من السلام معها أمراً مقبولاً وممكناً.
هكذا يصبح اغتيال نصرالله وسقوط بشار الأسد أبرز أحداث العام 2024 في المنطقة. وهكذا تفتح صفحة جديدة لإعادة صياغة نظام جديد في سوريا لم تتضح معالمه بعد. وهكذا أيضاً تتاح أمام لبنان فرصة استعادة استقراره وسيادته عبر تنفيذ اتفاق وقف النار والقرارات الدولية 1559 و1680 و1701 بدءاً بمحاولة انتخاب رئيس للجمهورية في جلسة 9 كانون الثاني يعبر عن عملية التغيير الكبير الذي حصل ويكون عنواناً للمرحلة الجديدة.