بقلم طوني عطية
على “حزب الله” أن يقرأ المتغيّرات بواقعية لا بعيون الأيديولوجيا
لم يستوعب “حزب الله” حتى الآن، حجم المتغيّرات والتحوّلات الكبرى على الساحتين المحليّة والإقليمية، وانعكاسها الإيجابي على تصحيح التوزانات الداخلية. ولم يبسط “الثنائي الشيعي” نفوذه وسطوته على مفاصل الحكم في لبنان، بقوّة الدستور ولا بحجم كتلتيه النيابية والوزارية ولا بحاضنته الشعبية، ولا باحترام أسس وقواعد اللعبة الديمقراطية، إنّما بسطها استناداً إلى فائض القوّة وخطوط الدعم الإيراني العسكري والمالي، مصحوبة باختلال موازين القوى في المنطقة، لا سيّما في لبنان وسوريا والعراق لصالح “محور الممانعة”، قبل تداعيات “طوفان الأقصى” وسقوط نظام السجون والمعتقلات في سوريا.
بعد تسمية القاضي نوّاف سلام لرئاسة الحكومة، واعتبار كتلة “الوفاء للمقاومة” على لسان رئيسها النائب محمد رعد أن نتيجة الاستشارات النيابية هي “إلغاءً وإقصاءً وتقسيماً”، وتحذيره (بنفحة تهديدية) من أي حكومة “غير ميثاقية”، عادت إلى الذاكرة التاريخية مرحلة التهميش المسيحي، عقب انتهاء الحرب الأهلية، مع اختلاف جوهري وجذري في مضامينها ومفاهيمها وخلفياتها. ولا يمكن التشبيه بين ما تعرّض له المسيحيون من اعتقال سمير جعجع ونفي ميشال عون واضطهاد مناصريهما وحلّ حزب “القوات اللبنانية”، وبين ما المح إليه “الحزب” من “مظلومية” و”طعنة في الظهر” وشنّ “حرب إلغاء شعواء ضدّه”. وتهويل “حزب الله” في المقابل بـ 6 شباط أو 7 أيار جديدين!
في المقارنة، أتى إقصاء المسيحيين وتهميشهم نتيجة إيمانهم ومقاومتهم في سبيل لبنان أولاً، وإرادتهم الصادقة في بناء الدولة بعد حرب مريرة وتسليمهم سلاحهم إلى القوى العسكرية الشرعية. فدفعوا بالموازاة ثمن عدم دخولهم بيت الطاعة السوري (احتلال الأسد) والنظام الأمني اللبناني. ولم يجدوا من يمدّ لهم يد العون والمشاركة، بل أزيحوا بـ”العاطل والمنيح”، بالدم والنار، عن المشاركة في الحياة السياسية وصناعة القرار الوطنيّ. أمّا حالة “حزب الله” اليوم، فأتت هزيمته، نتيجة عدم إيمانه بالدولة وعبور حدودها السيادية نحو المدى الإقليمي، وزجّ ذاته في صراعات الإقليم والرهانات الخاطئة. صحيح، أن “الحزب” دخل السلطتين التشريعية والتنفيذية، واستفحل في سلطويته بعد أن أحكمت إيران قبضتها على لبنان مع انسحاب الاحتلال السوري عام 2005، غير أن رأسه وعقله وعقيدته وممارسته لا تتآلف مع مفهوم الجمهورية الديمقراطية البرلمانية، إنّما مع “الجمهورية الإسلامية في إيران”. في حين أن كلّ القوى المعارضة، أعلنت مراراً وتكراراً، أقلّه منذ انتخاب الرئيس جوزاف عون وتسمية نوّاف سلام، مدّ اليد إلى “الحزب”، ودعوته إلى الإنخراط في اللعبة السياسية بناءً على احترام الدستور، وليس على أساس “القمصان السود” والتهديد والوعيد. لذلك بات على “الثنائي” أن يعترف بحجمه الطبيعي، لا بتخمته المزيّفة، وأن يخرج من نظريات “المؤامرة الكونية” ضدّه وتخوين من لا يوافقه الرأي، أو أن يعيد إنتاج فكرة “المظلومية والتهميش” كعدّة الشغل الجديدة في مواجهة الداخل.
في هذا السياق، جاء كلام رئيس الجمهورية، خلال استقباله أمس، نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى الشيخ علي الخطيب على رأس وفد، بأنّ “ما حصل بالأمس، (أي الإثنين خلال الاستشارات النيابية) هو عملية ديمقراطية، وأن المصلحة العامة هي الأهم”. ويُذكّرنا كلام الرئيس عون، على سبيل المثال لا الحصر، بتجديد ولاية نبيه برّي في رئاسة المجلس النيابي عقب الانتخابات النيابية 2022، حيث لم يحظَ بري بتصويت الكتل المسيحية الرئيسية أي “الجمهورية القوية”، “لبنان القوي” و”الكتائب اللبنانية”، ونال وقتها 65 صوتاً. هذه النتيجة، لم تعتبرها القوى المسيحية آنذاك، فاقدة للميثاقية، بل احترمت اللعبة البرلمانية. حتى أنّ رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، “المطعون بضهره” وفق ترويج “الممانعة”، حيّا أمس خلال استقباله رئيس الحكومة المكلّف نوّاف سلام “الطريقة الديمقراطية التي حصلت وطريقة التكليف”.
في الخلاصة، يحتاج “حزب الله” تحديداً، إلى اقتباس شيء من النفحة الجنبلاطية، بما معناه، أن يقرأ المتغيّرات بواقعية، لا بعيون الأيديولوجيا وإسقاط الغيبيّات والتعنّت، من أجل استكمال بناء الدولة ومساعدة العهد الجديد الصارم والصريح، وأن لا يبقى “شيعة الممانعة” الحلقة المفقودة في بنيان العقد الاجتماعي السياسي اللبناني.