بقلم د. ميشال الشّمّاعي
@DrMichelCHAMMAI
هي فلسفة لا زال متقنوها يتفنّنون باجتراح كفاياتها تحقيقًا لأهدافها. يبتدعون طرائق كتابيّة يمتهنون فيها التنكيش في نفايات الماضي، وذلك في محاولة لإخفاء قيحهم ووسخهم وقرفهم الحاضر؛ ظنًّا منهم أنّهم قد ينفدون بأنفسهم في مكسب ما في المستقبل. فهل يتّعظون من تجاربهم، أم سنقول مرّة جديدة: يا ربّ نجّنا من التّجارب؟
هؤلاء هم «النّكّيشة»، ميادينهم القاذورات والنفايات والمجارير. أهدافهم مقابر جماعيّة محفورة بإتقانِ حاقدٍ في ذاكراتهم البعيدة. كفاياتهم الهزء والشتم والتضليل والتعمية.
هذه الثقافة التي أتقن غارسوها زرعها في أدمغة أجيال لم يعرفوا حقولها. ترعرعوا على مصطلحاتها، وعندما كبروا ابتدعوا همُ أنفسُهم حقولًا معجميّة جديدة، قوامها مصطلحاتٍ جديدة قامت على إتقانٍ في الحقد لا مثيل له، بلغ حدّ الإبداع حتّى الإلغاء.
وهمُ الذينَ امتهنوا الحروب بعناوينَ إلغائيّة، لمّا عادوا ما تحالفوا إلّا مع مراياهم، وكرّسوا تحالفهم بوثائق عارٍ ألبسوها أرجوان العزّة والكرامة والانصياع.
ولمّا سقطت أوراق التوت التي سترت عوراتهم، حاولوا القفز من سفن الذمّيّة علّهم يلتقطون قطرات من الكرامة العذبة في بحار من ملح ذمّيّتهم وجبنهم وعهرهم السياسي. ولم يعرفوا أنّ الذي يطوّع لا يقبل بالتطويع. فلم يجدوا قشّة ليتمسّكوا بها فغاصوا في لجج الموت الوطني حتّى الأعماق.
لكنّهم ما زالوا حتّى الساعة يمارسون المهنة الأحبّ إلى قلوبهم، وهي مهنة «التنكيش». ظنًّا منهم أنّهم قد يجدون دليلًا لإدانة التاريخ من النفايات التي لفظها. لم يقتنع هؤلاء بعد أنّ القاذورات لا تحوي إلا القذارة، والقذرون وحدهم ينكشون ثناياها ليبيعوا في أسواق التفاهمات ما اعتقدوا أنّها كنوز إدانة لخصومهم.
ينجحون حينًا في استثمار هذه النفايات، لأنّ بعضهم يمتهن إعادة تدويرها واستعمال منتجاتها للقتل والتباهي كما حصل في ٧ أيّار ٢٠٠٨ و٤ آب ٢٠٢٠ و ١٤ تشرين الأوّل ٢٠٢١. لكنّهم يسقطون فيها من جديد، لأنّها مرآة تاريخهم القذر لحظة تستقيظ الحرّيّة الشخصيّة الكِيانيّة فيهبّ الأحرار لينفضوا عنهم غبار عارٍ أُلبِسوه. فتعود الفخامة للرئاسة، والدولة للحكومة؛ ويدخل قصر بعبدا فخامة رئيس يمتهن الفخامة، ويفتح السرايا الحكومي رجل دولة، نترقّب أداءهما لنحكم على مستقبلنا في هذا الوطن.
ولنا ملء الثقة أنّ السلطة التي يسعيان إلى بنائها لا مكان فيها لهؤلاء «النّكيشة»، لأنّ مع أمثالهم تحوّل الوطن إلى قاذورة تشبه تاريخهم القذر. واليوم اليوم وليس غدًا عاد جزء من الوطن إلى الوطن الذي ولدنا من رحم كرامته، فأعطانا الكرامة الإنسانيّة التي تواءمت مع كرامتنا الإلهيّة في جرن عمادنا الجلموديّ وميروننا القاديشيّ.
على هؤلاء النكيشة وحلفائهم الذين نكشتهم أعمال أيديهم الاستراتيجية الخاطئة أن يقتنعوا بأنّ «زمن الأوّل تحوّل». وما كان لهم في الاقليم خسروه. ومَن هادنهم في المجتمع الدولي التقاءً مع مصالحه رحل؛ وما عادت مصالح هذا المجتمع تتقاطع مع وجوديّتهم السياسيّة. أمّا الذين خافوهم يومًا فلقد أسقطوا عنهم لبوس الخوف وارتدوا لباس مخافة الله والوطن والانسان فتحرّروا.
الماضي قد مضى. وما فات ماتَ. ومَن لم يقتنع بعد بذلك فليتحوّل من ناكشٍ إلى منكوشٍ به علّه يجد في بواطن ذاته الكيانيّة ما تبقى من إنسان فيستولد إنسانه من جديد. لكنّ إيماننا أنّنا لن نضَعُ رُقْعَةً مِنْ ثَوْبٍ جَدِيدٍ عَلَى ثَوْبٍ عَتِيق، وَإِلاَّ فَالْجَدِيدُ يَشُقُّهُ، وَالْعَتِيقُ لاَ تُوافِقُهُ الرُّقْعَةُ الَّتِي مِنَ الْجَدِيد.
لذلك، إن لم ينفض النكيشة عنهم قذارة فلسفة التنكيش هذه، ليلبسوا الحلّة الجديدة، لن يكون لهم أيّ مكان في لبنان الجديد.
فالإشكاليّة ليست في قبولهم أم عدمه، بل هي في قبولهم همُ أنفسهم بالتخلي عن فلسفة التنكيش، وتعلُّمهم فلسفة البناء التي لم يتقنوها يومًا. فزمن الأوّل قد تحوّل. ولن نقبل بأن نتعامل مع إخوتنا في الإنسانيّة الوطنيّة على قاعدة الانكسار والهزيمة والتنكيش. فهذه القاعدة لا تشبهنا لأنّنا دُعاةُ بناء لا هدمَ. وتركنا التنكيش الذي لم نعمل به يومًا لأمثالهم. والتّاريخ يشهد كم مقبرة جماعيّة ادّعوا وجودها لكنّها بانت فارغة كعقولهم.
إن أراد هؤلاء التلبنن فلبنان ليس وطننا وحدنا، بل هو وطن اللبنانيّين الذين يؤمنون بوجوديّته عبر التّاريخ. ولن يكون وطن الذين يدينون بالولاء لغيره من أمم الأرض الطبيعيّة والفقهيّة والعقائديّة. ثالوث وطننا يقوم على الضّمائر الثلاثة: هو وأنت وأنا. هذه ذاتنا الضمائريّة الوطنيّة الضميريّة التي لم نضمرها يومًا بل أعلنّاها دائمًا وأبدًا.
لكنّ المؤسف أنّ ما يحصل اليوم لا ينبئ بأنّ النّكيشة قد اتّعظوا واقتنعوا بأنّ فلسفة التنكيش عمادها الإلغاء والهدم والقتل والدمار والفساد والعتمة والعطش والجوع والدّماء والدّموع. وهذه كلّها لا تشبه لبنان الجديد الذي ولد من رحم معاناتنا معهم. مسألة أيّام وتنطلق السفينة التي طال رسوّها في وحولهم. إن لم يتواضعوا فلن يكون لهم أيّ مرسًى في موانئ الأرض كلّها. وسفينة لبنان من أرز الفينيق، واسعة وكبيرة وتتّسع لكلّ مَن زرع أرزة في جباله المقدّسة.
القرار بيد النكيشة. إمّا أن يتنازلوا عن فلسفة التنكيش هذه، وإمّا سيطمرون في قاذورات الوطن حيث لن يجدوا من ينكش عنهم أوساخهم.