بقلم د. ميشال الشمّاعي
@DrMichelCHAMMAI
الشعب الذي لا يملك قضيّة يناضل من أجلها يبقى شعبًا هامشيًّا غير حيٍّ. أمّا الشّعب الذي يصطنع قضيّة ليناضل من أجلها أو يتبنّى قضيّة شعب آخر، فهو شعب يأبى الحياة إلّا من منظوره الفلسفي لهذه الحياة.
ممّا لا شكّ فيه أنّ القضيّة اللبنانيّة هي قضيّة وجودنا السرمدي الحرّ في هذه الأرض. ولا نقبل بأن يتمّ تشويهها، ولو حتّى نجح بعض أبناء الصّبحا بذلك. لكنّنا مؤمنون بأن الرّب حيّ في قلب تاريخ الوجود الذي صنعه، ويعرف تمامًا متى وكيف يتدخّل لتصويب مساره متى أصابه الوهن أو الضلال.
هذا ما حصل تمامًا في تاريخنا المعاصر. تدخّل الرّبّ عندما رأى أنّ أبناءه جنحوا بتاريخ وجوديّة الوطن الذي أراده موطنًا لأرزه، ليصوّب مسار هذا الوطن. ولن يستطيع أيّ مكوّن حضاريّ من المكوّنات اللبنانيّة أن يُنتزع سبب وجوديّة هذا الوطن.
هذا السبب الذي يقوم على نمذجته في محيط جلّ ما يحتاجه هو هذا النّموذج التعدّدي الحضاري لينتقل من “الدّعشنة” إلى اللبننة. ولعلّ ما حاولت زرعه منظّمة “الحزب” من فكر حضاريّ بعيد كلّ البعد من التماس الحضارة التعدّديّة، لأنّه ينحسر في بوتقة مذهبيّة، هو ما أدّى إلى تأخّر مشروع تظهير اللبننة في هذا المحيط الأحادي حضاريًّا.
ولكن بعد سقوط هذا المشروع القائم على مذهبة الفكر تحت ذريعة نشر التشيّع الصّفوي، نتيجة اتّجاه المنطقة الحضاريّ الانفتاحيّ الجديد، لا بدّ من مقاربة الأمر الواقع بنظرة سيكولوجيّة سوسيولوجيّة جيوستراتيجيّة، في محاولة لفهم كيفيّة مواجهة هذه الحالة التي تخطّت بقناعاتها الحدود البشرعقليّة.
فمشهد توجّه الوالد مع أبنائه في مواجهة آلة القتل الإسرائيليّة هو مشهد سورّياليّ لا يقبله أيّ عقل بشريّ، ينظر إلى الواقع بعين الحياة وحدها. فمن حقّ هؤلاء الأبناء أن يعيشوا وينعموا بنعمة الحياة، ويفرحوا بنعمة وجودهم فيها. كيف لا وفي سورة الشورى في الآيتين رقم 20 و36 مذكور هذا الكلام بحرفيّته: “مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ … فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ”.
فالإيمان بأنّ العمل للآخرة هو حقّ. لكن الخير الموجود في هذه الأرض وهو من صنع خالقها، هو من حقّ الذين يتوكّلون عليه. فالعمل للآخرة لا يكون بالموت للموت في هذه الدّنيا. أفلا يريدنا ربّ الحياة أن ننعم بنعمة الحياة التي منحنا إيّاها؟ فبأيّ حقّ نميتُ ذاتنا بذاتنا ونميتُ مَن معنا الذين أعطانا إيّاهم نعمًا في هذه الحياة أيضًا؟
ممّا لا شكّ فيه، أنّ هذا المجتمع قد بات في عنق الزّجاجة، والأزمة التي وضع نفسه بنفسه في وسطها باتت أزمة وجوديّة. تطرح أمام المنتمين إلى فكره المذهبي الإماميّ إشكاليّة وجودهم في هذه الحياة بشكل عام، وفي هذا الوطن بشكل أدقّ، فصار الموت عند هؤلاء فريضة للحياة الآخرة.
ولكنّ الموت هو حالة عبور من هذه الفانية. لا يصبو إليه الإنسان بل يعيش هذه الحياة حتّى يُسلِمَ ما تسلّمَه أفضل ممّا تسلّمه. لا أن يعبر عنوةً عن العبور الإلهي بعبور بشري غير أخلاقي أو إنسانيّ يصل به إلى حدّ التشيّؤ (التحول إلى أشياء)، فينكر ذاته بذاته؛ ليصبح بذلك كبش فداء لمشروع إيديولوجيّ لا يمتّ إلى الانسانيّة بأيّ صلة.
وعند اكتشافه هذه الحقيقة المرّة بالتماثل والمقارنة والنمذجة لأنّ المجتمع اللبنانيّ مجتمع تعدّديّ؛ يضمّ من الأفكار أغناها، ومن الحضارات أرقاها، يصاب بخيبة أمل وجوديّة تضعه أمام حقيقة ذاته. فيطرح السؤال الوجوديّ على ذاته الكيانيّة: ما الذي اقترفته يداي لأعبر فأموت، لا لأموت فأعبر؟
وعندها يصبح الموت حالة عبور إلى أسافل جهنّم، لا يرتقي بإنسانه إلى أعلى مراتب الانسانيّة أيّ الشهادة للحقّ. وفي هذا السياق، لا يمكن القبول بعد اليوم بأن يتمّ استدراج مجتمع الوطن إلى وطن المجتمع.
فما يصلح في بيئة حضاريّة لبنانيّة لا يصحّ في غيرها. لا بل المفارقة اليوم أنّ هذه البيئة عينها، وأعني بالتحديد بيئة محور الممانعة، لم تعد بكلّيّتها معنيّة بهذه الثقافة الانتحاريّة المجتمعيّة. فهذا المجتمع بات يرفض فكرة الانتحار المجتمعي تحت ذريعة تمجيد الأيديولوجيا في زمن التكنولوجيا.
لذلك، باتت هذه البيئة في حالة عبور من الانتصار الوهمي إلى التبرير غير المنطقي توصلًا إلى الرّكون في غياهب الهزيمة. ولكنّ الثقافة الاستكباريّة – الاستعلائيّة التي تمّ زرعها في بعض نفوس هؤلاء المغسولين إيديولوجيًّا تمنعهم من التوصّل إلى هذه الحالة الواقعيّة. لا نلومهم فهم حكمًا سيمرّون في مراحل استعراض الأزمة التي أوقعوا أنفسهم بأنفسهم فيها.
فعلى سبيل المثال لا الحصر يحدّد المؤلّف فهد أحمد الشعلان في كتابه “إدارة الأزمات: الأسس، المراحل، الآليّات”، الصادر في العام 2002 عن اكاديمية نايف العربية للعلوم الأمنية، في الصفحة 91 منه، بأنّ “مراحل نشوء الأزمة، تختلف باختلاف طبيعتها، وبصفه عامة فإنّ هناك أزمات وكوارث فجائية لا تمر بمراحل معلومة وبالتالي يصعب التنبؤ لحدوثها… إلا أن هناك أزمات أصبح من الممكن رصد مؤشراتها منذ البداية ومتابعتها أولًا بأول”.
وهذا ما يحدو بنا إلى الاستنتاج بأنّ الأزمة الاستكباريّة – الاستعلائيّة التي باتت فيها هذه البيئة بالتحديد، مكّنت أيّ مراقب من رصد مؤشّرات انهيارها منذ البداية. فهي حملت سبب سقوطها في انطلاقها. فالوطنيّة والسياسة والعيش معًا قيمٌ لا تقوم إلّا على التواضع. لأنّ كلّ مَن يرفع نفسه يتّضع، ومَن يضع نفسه يرتفعز
فمرحلة النّشأة قامت على القاعدة الخطأ والباطلة. وما بني على باطل فهو حتمًا باطل مهما طال زمن بقائه. وبعد هذه المرحلة أتت مرحلة التنامي التصاعدي في العنجهيّة والتّعالي والانتصار السرمدي. ومن لا يعترف بالهزيمة لا يعرف كيف ينتصر.
وبعد النمو الذي أتى نتيجة تنامي العامل الدّاخلي وتقاطعه مع العامل الخارجي، يأتي النضج السياسي الذي لم يستطع هؤلاء الارتقاء إليه لأنّهم آثروا الصدام والقتل للقتل بحجّة الدّفاع عن المقدّسات، فارتكبوا الموبقات. من السابع من أيّار مرورًا بسوريا وليس انتهاء بالطيونة أو الموتسيكلات الاستفزازيّة ذات المنظر المقيت.
فتحوّل نضجهم إلى حالة تحدٍّ للآخر المختلف. فبالتالي سقطوا بالتجربة. وبدأت مرحلة الانحسار. وما بعد الانحسار يأتي الاندثار بعد الصدام العنيف الذي أفقدهم عامل القوّة.
لكن حذارِ ألّا تتحقّق الأهداف الحقيقيّة من خلال الترجمة الوطنيّة لخطاب التاسع من كانون الثاني في تركيبة مؤسّساتيّة تحمل في طيّاتها فكر القضيّة. فعندها ستتجدّد قوّة دافعيّة جديدة قد تكون أشدّ فتكًا من الأولى. وهكذا ستكون النّهاية. ولو بعد حين.
لن ينجحوا في احتواء الضرر لأنّهم ما زالوا يعيشون حالة إنكار الانكسار. وبالتّالي لن يستطيعوا استعادة النشاط الوجودي بالمحايثة نفسها. وعندها تصل هذه الحالة إلى مرحلة فقدان القوّة في حال نجاح المؤسّسات باستعادة انتظامها، وبالتالي تفقد هي قوّة الدّفع الخارجيّة المولّدة لعناصر قوّتها، وتتلاشى مظاهرها كخيوط الشمس. وتموت هي ليحيا الوطن على قياس أبنائه الأحرار جميعهم.
الانكار والتعالي والاستكبار والعنجهيّة هذه كلّها مظاهر الانكسار. ما عادت تنفع. ولا حتّى الاعتراف المنكر الذي رشح في خطاب الناطق باسمهم الأخير. ما ينفع الآن نهضة تحرّريّة قوامها ثالوث كيانيّ أقانيمه الثلاثة: الشعب والدّولة والدّستور.