قلم مكرم رباح
“الملك بالجُند، والجُند بالمال، والمال بالخراج، والخراج بالعِمارة، والعِمارة بالعدل، والعدل بإصلاح العامل، وإصلاح العامل باستقامة الوزراء”.
والخلاصة، العدل أساس الملك.
تأتي هذه الحكمة الخلدونية في سياق الذكرى الرابعة لاغتيال الصديق الشجاع لقمان محسن سليم، الذي قُتل بست رصاصات غادرة في قلب منطقة سيطرة “حزب الله”، وفي ظروف مشابهة لعدة عمليات اغتيال سياسية أخرى تحمل بصمات ميليشيا إيران. قبل أيام من إحياء ذكرى لقمان، قرّر “حزب الله”، عبر سلاحه القضائي، إغلاق ملف التحقيق في جريمة اغتياله، حيث أعلن القاضي المحسوب على الحزب “حفظ الدعوى”، متذرعاً بأن “الجهة المدّعية توقفت عن تقديم أي أدلة إضافية للتوسع بالتحقيق”.
هذا الادعاء الكاذب لا يعدو كونه محاولة فاضحة لإخفاء البراهين والتغطية على الأدلة، وهو استمرار في النهج الذي يعتمد على حماية القتلة بدلاً من تحقيق العدالة. ومع ذلك، فإن هذه الخطوة لم تمرّ دون تداعيات، إذ رأى فيها الكثيرون مؤشراً واضحاً على استمرار هيمنة “حزب الله” على مفاصل الدولة، لا سيما الجهاز القضائي، لكنها في الوقت ذاته تعكس ضعف “الحزب” وفقدانه الحنكة السياسية حتى في التغطية على جرائمه.
سنة 1977، وبعد اغتيال المعلم كمال جنبلاط، عُيّن القاضي حسن قواص محققاً عدلياً في القضية، رغم الاحتلال السوري للبنان آنذاك. وعلى الرغم من الضغوط السياسية والعسكرية، نجح قواص في تجميع الأدلة التي أشارت بوضوح إلى دور المخابرات الجوية السورية، وتحديداً قائدها محمد الخولي، الذي كلّف إبراهيم الحويجي بتنفيذ الجريمة لإشعال الفتنة الطائفية.
كان قواص، شأنه شأن العديد من القضاة الشرفاء، ملتزماً بأخلاق المهنة، محافظاً على الاستقلالية والحياد والنزاهة، ولم يخضع للضغوط، كما لم يقم بتسريب تحقيقاته إلى الإعلام الموالي لسلطة الأمر الواقع، خلافاً لما يفعله اليوم القاضي المُكلف بملف لقمان سليم، الذي قرر دفن الحقيقة بدلاً من البحث عنها.
في ظل الاحتلال السوري، وعلى الرغم من محاولات السيطرة على القضاء، بقي الجسم القضائي اللبناني عصياً على الإخضاع الكامل. أما اليوم، فإننا نشهد تحولاً خطيراً، حيث بات القضاء أداة في يد ميليشيا مسلحة، تستخدمه لغسل جرائمها وتبييض سجلها الدموي، كما يحدث في قضية لقمان.
محاولة اغتيال لقمان سليم للمرة الثانية عبر القضاء، هي استمرار لنهج الإفلات من العقاب الذي مارسه “حزب الله” طيلة سنوات، لكن هذه الجريمة القضائية لن تمحو الحقيقة، ولن تلغي الذاكرة الجماعية للشعب اللبناني.
إذا كان “حزب الله” يحاول فرض سرديته حول “النصر الإلهي”، فإن الواقع يشير إلى العكس، فكيف يمكن لحزب “منتصر” أن يكون جمهوره مشرداً بين العواصم والمخيمات، وقيادته مطاردة، وسلاحه بلا قيمة حقيقية؟
المطالبة بالعدالة لا تعني تدخل السلطة التنفيذية في القضاء، بل على العكس، المطلوب هو تحرير القضاء من التبعية، ليحكم باسم الشعب، لا باسم ميليشيا إيران.
حين يتحدث هذا القاضي ومن خلفه عن الإيمان والتقوى، يبدو أنهم نسوا حديث النبي ﷺ:
“القضاة ثلاثة: إثنان في النار، وواحدٌ في الجنة، رجلٌ عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجلٌ قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجلٌ عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار”.
لقمان سليم لم يمت، بل اغتيل مرتين: مرة برصاص القتلة، ومرة برصاص القضاء المُسيّس. لكن كما فشل “حزب الله” في إقناع اللبنانيين بجدوى “انتصاراته”، سيفشل في محو ذكرى لقمان، لأن صوت الحق أقوى من كل الرصاص.