نقابة مُحاميّ طرابلس تستغلّ أدوات الإفلات من العقاب بدل مكافحتها

تعطيل المحكمة النقابية بقوة “المادة 751”

بقلم نزار صاغية

تماما كما فعل عدد كبير من المصرفيّين والمسؤولين بهدف تعطيل الدّعاوى المقامة ضدّهم، عمدتْ نقابة المحامين في طرابلس إلى مخاصمة قضاتِها (المحكمة النقابية في طرابلس) بهدف كفّ أيديهم عن النظر في طلب إبطال قرارها بمنع محامٍ من مزاولة المهنة. وقد تمّ ذلك على أساس المادة الشهيرة المادة 751 من قانون أصول المحاكمات المدنية والتي باتت منذ 2022 الآلية الفضلى لتعطيل القضاء والإفلات من العقاب.

وأكثر تفصيلا، استخدمت النقابة هذه الآلية في تاريخ 9/7/2024 بهدف تعطيل الدعوى التي أقامها المحامي طارق شندب أمام محكمة استئناف طرابلس النقابية، لإبطال قرار شطبه من الجدول العام للمحامين. وقد حصل ذلك كردّة فعل على القرار التمهيديّ الذي أصدرتْه المحكمة والذي اعتبر أن شطب شندب تمّ من دون مراعاة حقّه بالدفاع وتحسبا لقبول المحكمة قبول طلبه بوقف تنفيذ قرار الشطب. وعليه، وبدل أن تعمد النقابة إلى تقديم جوابها على الطلب في إطار ممارسة حقها الطبيعيّ بالدّفاع، اختارتْ أن تستخدم أسوة بالعديد من المصرفيين والمسؤولين، سلاح المادة 751 بما يضمن لها تعطيل المحكمة المختصّة في مراقبة أعمالها في هذه القضية، وتاليا تحصين قرارها إزاء أي رقابة قضائية إلى أجل غير مسمّى. ولئن رشح هذا الإجراء عن تعسّف بديهيّ في استعمال أساليب الدفاع عن النفس، فإنّه اكتسى خطورة مضاعفة لصدوره عن نقابةٍ تستمدّ سبب وجودها من وظيفتها في صون آداب المهنة والدفاع عن استقلالية القضاء ودوره. وبذلك، بدت النقابة في معرض التطبيع مع الواقع الشاذ الذي جعل المادة 751 بمثابة أداة للإفلات من العقاب بدل أداء دورها المناط بها قانونا في مكافحة هذا الواقع.

وقبل المضي في إثبات التعسّف في استخدام هذه الآلية، يجدر التذكير بكل ما نشرته المفكرة سابقا لجهة تحول دعوى مخاصمة الدولة أمام الهيئة العامّة لمحكمة التمييز بعد إفقاد هذه الأخيرة نصابها في بداية 2022، إلى إجراء يمكّن عمليّا أيّ متقاضٍ من تعطيل النظر في القضية المعنيّة لأجل غير مسمّى. إذ في أصلها، كان يُفترض أنّ دعوى مُخاصمة الدّولة هي دعوى استثنائيّة، يتمّ اللجوء إليها فقط في حالات وجود “خطأ جسيم” هو في طبيعته نادر الحصول. لكن بفعل فقدان نصاب الهيئة العامّة لمحكمة التمييز، راج تقديم هذه الدعوى بعد تحوّلها من دعوى تستند إلى وجود أسباب جديّة تحت طائلة إهمالها بصورة شبه فورية، إلى إجراء شكليّ يؤدّي، بمجرّد تقديمه، إلى تعطيل القضاء بصورة شبه دائمة وكفّ يد القاضي، من دون الحاجة لإثبات أي شيء. وقد لفتت المفكرة القانونية في مقال سابق إلى التوسّع في استخدامها في جميع مراحل المحكمة وضمنا ضد القرارات التمهيدية (وليس فقط ضد القرارات النهائية المبرمة) على نحو جعلها وسيلة ممتازة لتعطيل العدالة وترسيخ نظام الإفلات من العقاب.

التعسّف البديهيّ في ممارسة حقّ الدفاع
كما سبق بيانه، لجأت نقابة المحامين إلى مداعاة الدولة على خلفية خطأ جسيم مرتكب في قرار تمهيدي، وهو قرار غير نهائي وغير مبرم، في اتجاه يخالف بداهة الاجتهاد الراسخ والثابت للهيئة العامّة لمحكمة التمييز والذي أكّد من دون أي لبس أنّ “تقديم دعوى ضد قرار موضوع نزاع غير مبرم يشكل تجاوزًا لاستعمال حقّ الطعن ويقتضي الحكم بالغرامة على المتعسّف” (الهيئة العامة لمحكمة التمييز، رقم 41 تاريخ 12/11/2012)، وأنّه من غير الممكن “مساءلة الدولة عن أعمال القضاة العدليين إذا لم يكن قد صدر حكم أو قرار نهائي بموضوع النزاع بحيث ترد الدعوى شكلا” (الهيئة العامة لمحكمة التمييز – بيروت رقم 33 تاريخ 29/10/2012). وهذان القراران هما غيض من فيض من القرارات ذهبت كلها في الاتجاه نفسه.

وعليه، وبمعزل عن الأسباب التي استندتْ إليها دعوى المخاصمة (وهي أصلًا أسباب واهية تعمدنا عدم الخوض بها لعدم إنتاجيتها)، فإن اللجوء إلى مخاصمة الدولة يشكّل تعسفا فاقعا من قبل النقابة. وما يزيد من جسامة التعسّف أن النقابة تعلم جيدا أن الدعوى المقامة منها في وجه المحكمة النقابية ستؤدي بفعل تعطيل الهيئة العامة لمحكمة التمييز إلى تعطيلها إلى أجل غير مسمّى، مما يحصّن قرارها المطعون فيه ويفقد المحامي شندب إمكانية الترافع قضائيا من أجل إبطال شطبه من الجدول العام للمحامين وتاليا استعادة حقه في مزاولة المهنة. لا بل أن مخاصمة المحكمة النقابية سيرغم هذه الأخيرة على التنحّي عن النظر في أي قضية تكون فيها نقابة المحامين في طرابلس معنية، مما يؤدي إلى خلل كبير في توزيع الأعمال والاختصاصات. ولا يردّ على ذلك بإمكانية تعيين قضاة بدلا عن القضاة موضوع المخاصمة، إذ يكون للنقابة أن تخاصم أيّة هيئة يتم تكوينها لغاية مساءلتها، تماما كما فعل رياض سلامة حين ادّعى تباعًا على 4 هيئات للهيئة الاتهامية في بيروت في سياق دعوى عمولات “فوري”.

نقابة المحامين تستغلّ أدوات الإفلات من العقاب بدل محاربتها
مما تقدّم، يظهر بوضوح أن نقابة المحامين في طرابلس انخرطتْ في اللعبة الشاذّة المتمثّلة في تعطيل العدالة عملا بالمادة 751 بهدف تحصين قراراتها بدلًا من أن تركّز جهودها على مكافحة هذه اللعبة، ليس فقط حفظا للقضاء وحق التقاضي، ولكن في الآن نفسه حفظا لمهنة المحاماة التي تفقد معناها في حال فقدان القضاء دوره.

وليس أدلّ على جسامة خروج النقابة عن دورها، من التذكير بما نص عليه “نظام آداب مهنة المحاماة ومناقب المحامين”، حيث جاء حرفيّا أنّ المحامين “نخبةٌ في المجتمع، رسل العدالة وحماة الحقوق ومدافعون عن الحريات العامة وسيادة القانون وسمو الدستور ومنعة القضاء واستقلال السلطة القضائية والقضايا الوطنية” (م.30), كما جاء فيه أن “رسالة المحامي ورسالة القاضي تهدفان إلى غاية واحدة هي تحقيق العدالة”، وأنه على المحامي أن يلتزم “باحترام القضاء واحترام القضاة كشركاء معه في إقامة العدل بين الناس” (م.31)، و”الدفاع عن استقلال السلطة القضائية ورفعة منزلتها، وبحماية دورها” (م.32).

ومن البيّن أن تعمّد تعطيل العدالة بأساليب تعسّفية وإلى أجل غير مسمّى إنما يشكل نقيض كل ما تقدم من آداب، حيث أنه يخوّل أيّ مدعى عليه تعطيل أيّ دعوى مقامة ضده مهما بلغت أهميتها كما سبق بيانه، وتاليا إلى نسف القضاء ودوره بدل احترامه والدفاع عن استقلاليته ومنزلته، فضلا عن أنه يؤدي (وهذا الأخطر) إلى نسف حقّ التقاضي ومعه مهنة المحاماة برمتها.

هذه هي أبعاد ما فعلته نقابة المحامين في طرابلس عن وعي أو غير وعي. بقي أن نأمل أن تحفّزها هذه الأسطر على التراجع عن التعسّف المذكور، تمهيدا لاستعادة دورها في تحصين دور القضاء في المحاسبة ومكافحة الإفلات من العقاب. فلنراقب.

اخترنا لك