بقلم كوثر شيا
يعيش لبنان اليوم تحديات مصيرية تضعه أمام خيارين: إما الاستمرار في دوامة الأزمات والانقسامات، أو التوجه نحو إصلاح جذري يعيد للدولة سيادتها، وللمواطن حقوقه.
في ظل التدخلات الخارجية المتزايدة، والانقسامات السياسية والطائفية المتجذرة، لا بد من العودة إلى أسس الدولة المدنية التي تقوم على احترام القانون والدستور، بعيدًا عن المصالح الفئوية التي أنهكت الوطن.
التدخلات الخارجية وضرورة ضبط العمل الدبلوماسي
لا يمكن إنكار أن لبنان كان ولا يزال ساحة لتجاذبات دولية وإقليمية تؤثر في قراراته الداخلية، مما يعمّق الانقسامات السياسية. ولعل الزيارات الدبلوماسية، بما تحمله من رسائل سياسية مباشرة وغير مباشرة، أصبحت جزءًا من هذا المشهد، حيث تُستغل أحيانًا لإحداث توتر داخلي أو دعم طرف على حساب آخر.
من هذا المنطلق، يصبح من الضروري ضبط المعايير الدبلوماسية، ومنها الالتزام بـ“Dress Code” دبلوماسي محايد، يمنع أي سفير أو مندوب من ارتداء رموز أو أزياء تعكس انتماءً طائفيًا أو سياسيًا قد يؤجج الشارع.
فالدبلوماسية تستوجب الحياد والالتزام بالقوانين الدولية، وأي خروج عن ذلك قد يُفسَّر على أنه محاولة للتأثير على الرأي العام الداخلي أو تحريض فئة ضد أخرى.
كيف نتعافى من الانقسامات ؟ الحل في القانون والدستور
لبنان لم يصل إلى هذا المستوى من الانقسام بين ليلة وضحاها، بل هو نتيجة عقود من السياسات المبنية على المحاصصة الطائفية وتجاوز القوانين لمصلحة القوى المتنفذة. لذلك، لا يمكن تحقيق التعافي الوطني إلا من خلال :
1. تطبيق القانون على الجميع دون استثناء :
• لا يمكن بناء دولة قوية في ظل انتقائية القانون، حيث يُحاسَب الضعيف ويُحمى القوي. إن فرض سيادة القانون بعدالة هو الضامن الوحيد لإنهاء النفوذ الطائفي والميليشياوي.
2. احترام الدستور والمهل الدستورية :
• إن الالتزام بالمواعيد الدستورية، سواء في تشكيل الحكومات أو انتخاب رئيس الجمهورية، يعكس جدية المؤسسات في العمل وفق الأطر القانونية بدلًا من إغراق البلاد في الفراغ السياسي والتسويات المصلحية.
• الانتخابات البلدية القادمة في الأشهر المقبلة تمثل اختبارًا حقيقيًا لاحترام المهل الدستورية، بعد سلسلة من التأجيلات التي حرمت المواطنين من حقهم في اختيار ممثليهم محليًا. لا يمكن للبنان أن ينهض ما لم تُجرَ الاستحقاقات الدستورية في مواعيدها، كخطوة أساسية نحو استعادة الثقة بالمؤسسات الديمقراطية.
3. إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس وطنية :
• المؤسسات القائمة على الولاءات الطائفية لا يمكن أن تحقق الاستقرار، لذا يجب العمل على إصلاح شامل يضع الكفاءة والمواطنة فوق كل اعتبار.
4. تحييد لبنان عن الصراعات الخارجية :
• لبنان بحاجة إلى سياسة خارجية متوازنة تحمي سيادته وتمنع استغلاله كأداة في صراعات الآخرين، مع تعزيز دوره كجسر للحوار والسلام بدلاً من ساحة صراع دائمة.
رؤية لمستقبل لبنان : سيادة، عدالة، ووحدة وطنية
إن بناء لبنان جديد لا يكون فقط بتغيير الوجوه السياسية، بل بتغيير النهج كاملاً. عندما يصبح القانون فوق الجميع، وعندما تُحترم المهل الدستورية، وعندما تتراجع المحاصصة لصالح المؤسسات، يبدأ لبنان بالتعافي من جراحه.
إن الانتخابات البلدية القادمة ليست مجرد استحقاق إداري، بل فرصة لاستعادة حق الشعب في المشاركة السياسية الفعالة، وكسر حلقة التأجيلات التي عطلت الديمقراطية المحلية. الالتزام بإجرائها في موعدها هو مؤشر على جدية الإصلاح، وعلى قدرة لبنان على الخروج من أزمته السياسية عبر احترام دستوره وقوانينه.
ما يحتاجه الوطن اليوم ليس مزيدًا من التجاذبات، بل خطوات جريئة نحو سيادة وطنية حقيقية، وعدالة اجتماعية، ووحدة وطنية تُعيد للبنان مكانته الحقيقية، دولةً حرة مستقلة قائمة على القانون، وليست رهينة الانقسامات والمصالح الخارجية.