إدمون رزق : هذه علاقتي بـ مار مارون… و الطائف لم “يُطيّف” الوزارات

ماروني جزيني عرف "فخامته" من فتوّته

بقلم نوال نصر

… ويتجدد اليوم عيد مار مارون، فيه بعض التفاؤل بلبنان يليق بالموارنة كما بكلّ اللبنانيين، وفيه كثير من المخاوف بأن يبقى رازحاً تحت وابل قذارات سنين مضت. أولاد مارون اليوم يحلمون، كما حلم الموارنة الأوائل بلبنان بنوه “حتة حتة”. بلبنان قيل إنه رسالة. بلبنان الجامع الضامن لا معنى فيه لثلثٍ معطل ووزير “إلي” وزير “إلك”. فماذا عن الموارنة ولبنان والدستور والطائف منذ مئة عام إلا “كم سنة”؟ ماذا عن آخر الموارنة الكبار ممن شاركوا بوضع أسس الجمهورية الثانية في الطائف؟ ماذا عن الكبير إدمون رزق الذي يستمرّ متابعاً من صومعته أخبار لبنان والموارنة؟ كيف عاش مارونيته؟ كيف هي علاقته بمار مارون وهو من خطب في الحسينيات والجوامع ومن وعظ في الكنائس؟ ومتى ينادي ابن جزين “يا مار مارون” طالباً من “بيّ الطايفة” التدخل؟

وقصدناه مجدداً. هو مولود في 11 آذار عام 1934 (في الهوية) لكنه يقول إنه ولد قبل هذا التاريخ المسجل بعام. لا يهم سنة بالزايد أو سنة بالناقص. الأهم أن يبقى “العمر كله” بصحته وعقله الوازن. يبتسم لنا – كعادته – وهو يصغي إلى ما نقول. “مشبشب” يبدو. صوته الجهوري يستمرّ عالياً واضحاً ودالّاً. نسأله عن مار مارون فيُحدثنا عن خطاباته في الحسينيات. نسأله عن المسيحيين فيُحدثنا عن لبنان الجامع. نسأله عن رئاسة الجمهورية – المركز الماروني الأوّل – فيحدثنا عن ثغراتٍ و”تضعضعٍ” في البوصلة آملاً بحقبة رئاسية مختلفة مع ابن جزين “النبيه والحكيم” الذي عرفه منذ فتوته.

هو علّم في “أول طلعته” في مدرسة المجلس العام الماروني في مار يوحنا “كانت مجانية”. لكن، ماذا عن علاقته بالقديس مارون؟ يجيب “علاقتي به مارونية. أنا اللبناني الماروني الجزيني الذي يصلّب بالخمسة. علاقتي بمار مارون مروحة واسعة ليس فيها حصرية ولا محدودية. أن أكون مارونياً معناه أن أكون أيضاً لبنانياً لأن هناك نوعاً من توأمة بين المارونية واللبنانية. هذه ليست حصرية إنما كل ماروني لبناني منفتح على مدى يتخطى الحدود. أنا ممن يقولون إن الإنسان قادر أن يصلي لربه بطريقته من دون أن يشرك بين الله والوطن. الله لوحده والوطن لوحده. أما القومية والأممية وكل التسميات التقسيمية والانفصامية فاعتقدتُ دائماً أنها تنتقص من الإنسانية. من الممكن أن يكون الإنسان من أي مكان في العالم لكن الإنسانية هي التي تجمع بين كل الناس”.

لبنان التعدّدي الموحّد

وهو يتحدث عن مارونيته ومسيحيته ولبنانه تدق الساعة في صدر الدار. يتمهل متابعاً “الهوية اللبنانية في مشاعري ونشأتي وأحلامي هي الانفتاح والجمع. لبنان تعددي لكنه موحد. وهذا ما وضعناه في الدستور اللبناني الذي كان لي الفخر والسعادة في المشاركة في وضع مشروع تعديله بناء على اتفاق الطائف”.

قبل أن نغوص في الطائف الذي أسس لمتغيرات وسلب – قيل – من حقوق المسيحيين وتحديداً الموارنة. متى ينادي إدمون رزق: يا مار مارون؟ يجيب “في بلدتي مار مارون شامخ في كنيسته. وكلما صعدت على السطح وناديت يا مارون يجيبني واحد على الأقل من كل بيت جزيني”. نسأله عن “الخاص” فيتكلم في العموم “اللبناني، المسيحي وغير المسيحي، فيه شيء من اللبناني الآخر. الشراكة الحياتية بين اللبنانيين تجعل في خلفية كل لبناني من أي طائفة شيئاً من الطوائف الأخرى. مارست هذا في حياتي وكان لي الفخر والسعادة أن أقف على منابر الجوامع والمساجد وأخطب في مناسبات عاشوراء. وكتبتُ “مشاركة في الإسلام” يضم مختارات من وقفاتي في المساجد والحسينيات. كنت – وما زلت – مصراً على عدم الحصرية الإيمانية التي تفرّق. أنا مقتنعٌ أن ليس إنكار الدين والكفر والإلحاد ما يقرّب الناس من بعضهم، وليست العلمنة الرافضة للروحانيات من تجمع. ما يجمع هو الإيمان بإله واحد. يكفي أن يتذكر المسيحي أن المسلم أخيه يقول: أشهد أن لا إله إلا الله.

وأن يتذكر المسلم أن المسيحي أخيه يقول: أؤمن بإله واحد. حتى يلتقيا. المرجعية الإعترافية لكل من الدينين هي ذاتها: لا إله إلا الله وأؤمن بإله واحد آب ضابط الكل خالق السماء والأرض… في عيد مار مارون، فلنتذكر أن الإيمان يجمع ولا يفرق”.

إدمون رزق المبتعد حضوراً عن محبيه والقريب منهم روحياً يقول “رسمالي محبة الناس”. لكن، من خلال تجربته الواسعة في لبنان الذي عاش ويلات كيف يرسم لمحبيه مشهدية محطات كانت مصيرية للموارنة وغير الموارنة؟ “عشتُ الوحدة الوطنية في أروع تجلياتها من عمر تسع سنوات. والدي كان رئيس تحرير جريدة “الحديث المصوّر” التي تأسست عام 1937 وكانت تصدر صفاً يدوياً من اثنتي عشرة صفحة. كنتُ في العطل المدرسية أذهب معه إلى الجريدة وألتقي رجالات لبنان أمثال رياض بك الصلح وسامي بك الصلح وحميد فرنجية والرئيس كميل شمعون. كانت مكاتب الصحافيين ملتقى السياسيين. تعلمتُ من هؤلاء وجوب التركيز على الدولة والوحدة الوطنية بالمعنى الحقيقي. لبنان الحقيقي رأيته عام 1943. كان لبنان الوحدة الحقيقية”.

نعم للمواطنة لا للطائفية

ماذا عن رجالات لبنان اللاحقين؟ يجيب بلا تردد “إنهم مختلفون ومتخلّفون. زمان كان الحس الوطني يجمع. يعني، كان المسيحيون ينتظرون الأعياد الإسلامية والمسلمون ينتظرون الأعياد المسيحية لتهنئة بعضهم وليس للمزايدة. تعلمتُ القرآن الكريم في مدرسة دير مشموشي على أيدي رهبان أذكر منهم الشاعر والخطيب الأب نعمة الله حبيقة والأب إغناطيوس خشان. كان الرهبان يعلموننا القرآن. كان ذلك حرصاً على تخطي الطائفية وعلى أهمية الإعتماد على الإيمان الذي يجمع بين الأديان. كان التنافس على المواطنة لا على الطائفية”.

نكرر عليه السؤال، ماذا عن المراحل اللاحقة التي عاصرها؟ متى بدأ فعلا يتلمس التغيير الانحداري؟ يجيب “إسمعيني، العصف العروبي بعد الناصرية أعطى فرصاً للتمييز والتفرقة. وأتت الوحدة لاحقاً بين سوريا ومصر – الجمهورية العربية المتحدة – ومحاولة استتباع لبنان ما خلق نوعاً من الحذر تحوّل إلى تباعد هو ليس من طبيعة اللبنانيين. اللبنانيون من الأساس عاشوا طوائف متعددة في وطن واحد وهوية واحدة. التعددية اعتبرناها نحن نوعاً من التكامل بين الأطراف وليست سبباً للتنازع والافتراق”.

كان ما كان. عشنا الحرب الأهلية وحدث ما حدث في الطائف. هو أحد آخر الشهود الموارنة على الطائف الذي سلب من الموارنة مكتسبات سابقة… يقاطعنا بالقول “أهم ظاهرة في تلك المرحلة أننا في الطائف كنا جميعاً لبنانيين لا موارنة ومسيحيين وسنة وشيعة ومسلمين. ذهبنا لإيجاد حلّ للقضية اللبنانية ولبنان الوطن الواحد والدائم”.

لكننا لم نلمس واقعياً ما أرادوه؟ يجيب “توليت في أول حكومات بعد الطائف حقائب بينها وزارة العدل. وأنا بكل تواضع أقول إني وضعت بتكليف من مجلس الوزراء نصوص تعديل الدستور. هذه النصوص لو طبقت بحذافيرها لكانت تخطت الطائفية في انتظار نشوء جيل من اللبنانيين مؤسّس على المواطنية. ومن الخطأ القول إننا نزعنا من صلاحية رئاسة الجمهورية. كان الرئيس معطى أشياء هي من الأنظمة الرئاسية لا من النظام الجمهوري العادي. قلنا يومها بما أننا في المرحلة الانتقالية فهناك مراكز مخصصة لطوائف وريثما نتخطى الطائفية نحافظ على الانتماء الطائفي لرجالات الدولة. كان ذلك ممكناً لو أتينا بحكامٍ بمستوى الحكم لا بمن أرادوا الجلوس في القصور والسرايات والوزارات. الشعب اللبناني مهيّأ للوحدة الوطنية لكن كلما قرّب من ذلك يبعدونه”.

حقيبة المالية ليست لطائفة

في السياق سؤال آني، نبيه بري تحدث عن أن وزارة المال أعطيت، بتوافق في الطائف، للطائفة الشيعية… يقاطعنا بالقول: “شاركتُ شخصياً في وضع الاتفاق ووضعت نصوص التعديلات الدستورية التي أقرّت في الطائف وأجزم أن لا شيء جرى التداول به يتعلق بغير الذي كُتب. لم يرد أو يطرح أو يقرر شيء في الطائف يتعلق بتطييف الوزارات بل كان توجهاً إلى وجوب تخطي الطائفية لا إلغاء الطوائف، وذلك بالاعتماد على الكفاءة والاختصاص. شو بيهمني إذا كان وزير المال مسلماً أم مسيحياً إذا لم يكن صاحب اختصاص وأهلية. نحن كنا مع مقولة: إعط خبزك للخباز ولو أكل نصو. المفروض بالتالي تولية المؤهل والنظيف والمستعد لا زلم هذا أو ذاك. وما أقوله أجزم به”.

كان إدمون رزق خطيباً وواضعاً خطابات سياسيين كبار في لبنان بينهم الياس سركيس (وإن كان يرغب بعدم ذكر ذلك تواضعاً). اليوم، سمعنا خطاب فخامة الرئيس جوزاف عون، الماروني الأول واللبناني الأول، الذي دغدغ مشاعر كل اللبنانيين. فكيف قرأه؟ وكيف تكتب الخطابات الرسمية عادة؟ يجيب “أعرف فخامة الرئيس من زمان، من فتوته الأولى. نحن أولاد منطقة واحدة. وأهله كانوا من أقرب الناس وأنا فخور به لتصرفه بحكمة ونباهة بلا ارتجال. ويجب أن يحاط بفريق عمل كفوء يتمتع بالكفاءة والاختصاص” ويستطرد “عادة يكون لدى الرؤساء معاونون حتى في كتابة الخطاب. تكون هناك سياسة عامة ومبادئ يتضمنها أي خطاب رئاسي ويعمل المعاونون على بلورتها في الخطاب. خطاب الرئيس ليس عمل شخص بل نتاج إعداد فريق”.

ينظر إدمون رزق حوله. ينظر إلينا. ويسأل: “هل شُكلت الحكومة الجديدة؟” ويقول “الحكم وظيفة. الوزير موظف. والتوزير، كما التوظيف، يحتاج إلى تطبيق النصوص واعتماد الأسس والمبادئ المعروفة في الأسس الديمقراطية. رئيس الجمهورية يُسأل ويستشار ويتحمّل، مع رئيس الحكومة، مسؤولية التأليف. التركيبة بحاجة إلى توافق وتعاون لا تواجه. النظام الديمقراطي شراكة في المسؤولية وليس تعطيلاً. نسمع عن الثلث المعطل. هذه أكبر هرطقة. لا شيء في الدستور اسمه ثلث معطل. الحكم مشاركة ومسؤولية لأننا لسنا في بلد ديكتاتوري”.

تأكيداً، هل ذُكر في الطائف شيء عن ثلث معطل أو حتى ثلث ضامن؟ يجيب رزق “عيب. شو نحنا قاصرين”.

لسنا قصاراً لكن التجارب، موارنة وغير موارنة، علمتنا أن هناك من يمسك البلد برباطٍ ويجره دائماً إلى الوراء. فلنعد إلى زمن عيد بيّ الطائفة المارونية. المسيحيون يريدون أن يعودوا بخير. فهل هذا، في خضم كل المجريات، ممكن؟ استناداً إلى تجارب إدمون رزق يعطينا نصيحة “فليثق المسيحيون والموارنة وكلّ اللبنانيين أن البلد للجميع، والمطلوب أن يُحسن الشعب اختيار حكامه القادرين على المحافظة عليه لا الإتجار به”.

بين التعصّب والجهالة

هو ليس متعصباً. هو مسيحي ماروني جزيني لكنه غير متعصب. كرّر ذلك في سياق حديثة مرات. فهل وجد في الآخرين تعصباً؟ يجيب “وجدت جهالة عند الغالبية. النبي محمد حرص على التبليغ: اللهمّ إني بلغت اللهمّ فاشهد. هذا معناه أنه حين يقول أحد أنه المرجع والقانوني والدستوري فهذا معناه أن يطبق ما يقول. صدقيني، ليس أسهل من أن يُحكم لبنان شرط أن يفهمه الحاكم. حين يرسب أحد ما ويستحقّ علامة “صفر”، مثله مثل الحاكم الفاشل، يكون جاهلاً. حين يصل غير المؤهل إلى الحكم يخرب البلد”.

فليقلّ الأستاذ إدمون رزق شيئاً إلى اللبنانيين عموماً، والموارنة في عيدهم بالتحديد؟ “صلوا وتذكروا أن الموارنة للبنان وليس لبنان للموارنة”. هل شعر الموارنة لبرهة أن لبنان لهم لوحدهم؟ يجيب “دعيني أقول للموارنة إنهم أعطوا الكثير وعليهم أن يعطوا أكثر. ومقياس الاستحقاق هو العطاء والخدمة. فليعرفوا أن رئاسة الجمهورية ليست وجاهة والوزارة ليست وجاهة بل خدمة للناس”.

كيف يعيش إدمون رزق مسيحيته؟ “عملي صلاة. كلامي صلاة. أقدم نهاري للربّ وأرجوه أن تكون كل تصرفاتي صلاة. صلواتي من قلبي وليست تمتمات. الصلاة هي النية أولاً في الخير والرغبة في العطاء. أنا مؤمن ممارس وشاركتُ في كتابة القداس الماروني”.

يغوص الكبير إدمون رزق في تاريخ رجالات الموارنة. نسأله من يستحقّ منهم كلمة شكراً منك؟ يجيب “لا يمكن أن أخصص لكني لن أنسى الرئيس كميل شمعون، خصني بعلاقة كريمة ورعاية، وشرّفني بأنه كان يستقبل زواره في مكتبي. الياس سركيس أعتبره أيضا آخر الرؤساء (قبل وصول الرئيس جوزاف عون) وبشير آخر حلم رئيس ولاحقاً تعاقب نزلاء. هناك رجالات موارنة كبار. هناك من عانوا. سمير جعجع أحدهم. دافعتُ عنه. أحترمه. تحمل وعانى الكثير. اتكالنا اليوم على فخامة الرئيس الجديد ولديّ كلّ الأمل والثقة بتأديته رسالته بجدارة”.

اخترنا لك