على من يستقوي “حزب الله” ؟ “مش نحنا قتلنا السيِّد”

بقلم نجم الهاشم

لم يجب “حزب الله” على الكثير من الأسئلة المتعلّقة بالحرب مع إسرائيل وعلى النتائج التي أسفرت عنها عسكرياً وسياسياً، وعلى موافقته على اتفاق وقف النار وتنفيذ القرار 1701 المتعلّق بنزع سلاحه وتفكيك ترسانته العسكرية والأمنية. على العكس ذهب في الاتجاه المعاكس من خلال التهدئة مع العدو الإسرائيلي، وتهديد معارضيه في الداخل بالانتقام، وكأنّهم هم من قتلوا أمينه العام السيد حسن نصرالله، وأجبروه على دخول الحرب التي تفوّقت فيها إسرائيل.

لا يهمّ عدد الناس الذين جمعهم “حزب الله” في تشييع أمينيه العامّين السيّدين حسن نصرالله وهاشم صفي الدين في 23 شباط، سواء أكان مليونين أو مليوناً أو مئة ألف، أو حتى لو كان رمزياً. فالمسألة لا تتعلق بالعدد بل بالخلاصات التي يمكن أن يكون وصل إليها “الحزب”، وبالرسائل التي أراد توجيهها ولأي جهة.

مشهدية الصدمة

بعد خمسة أشهر على اغتيال نصرالله وصفي الدين أراد “الحزب” أن يخرج إلى العلن بمشهدية صادمة للذين عارضوه وانتقدوا دخوله حرب المساندة بعد عملية “طوفان الأقصى” وزجّ لبنان كله فيها وذلك من أجل القول إنّه انتصر، وأنّ هدف إسرائيل كان إنهاء وجوده وإلغاءه، وإنّه باقٍ وتجاوز مرحلة الخطر والضياع وأعاد بناء هيكليته الأمنية والعسكرية، وأنّه يمثل كل البيئة الشيعية ومعها كثير من البيئات الأخرى المحلية والعربية والدولية، وأنّه مستمرّ في استراتيجة الحرب وبناء قدراته العسكرية واستعادة لياقته التنظيمية والقتالية بعدما تمكّن من ملء الفراغات التي تركتها عمليات تفجير البايجر وأجهزة الاتصال والاغتيالات التي طالت الصفوف الأولى من قياداته من الأمين العام السيد حسن نصرالله نزولاً إلى قيادات في الميدان العسكري والأمني.

صحيح أن الحزب خرج بمشهدية كبيرة وتمكّن من حشد الجماهير التي تحدّت الخطر والطقس والجليد وتجمّعت في مدينة كميل شمعون الرياضية وعلى الطريق الممتد منها حتى المرقد الذي اختاره لأمينه العام السيد حسن نصرالله. ملأت الحشود الشوارع ولكنها كانت تملأ مساحة تراجع قوة “الحزب”. أراد الحزب أن يخرج بصورة المنتصر ولكن المشهد “الكربلائي” أعطى صورة معاكسة. كانت مناسبة لإظهار الحزن والفاجعة واعترافاً بحجم الخسارة والهزيمة. كان احتفال تشييع السيّدين نصرالله وصفي الدين دليلاً على حجم الفاجعة التي عاشتها وتعيشها الطائفة الشيعية في لبنان. بعد خمسة أشهر على اغتيالهما وبعد رفض التصديق أن إسرائيل تمكّنت من قتلهما، مشت الحشود التي تقاطرت من مناطق بعيدة وقريبة في موكب التشييع والدفن، حيث باتت تلك هي الحقيقة المرّة التي فرضت نفسها على “الحزب” وبيئته وجعلته يبحث عن مخارج لها ومنها.

طائفة في ثوب الحداد

كان هناك شعور عام بالهزيمة ظهر من خلال التفجع والبكاء وكأنّ الطائفة الشيعية كلّها ارتدت ثوب الحداد. حتى أن تشبيه السيّد حسن نصرالله بأنّه “حسين زماننا” لم يخرج عن هذه المشهدية التي تستعيد وقائع تاريخية من موقعة استشهاد الإمام الحسين في كربلاء، فشل “الحزب” بقيادة نصرالله في تصحيحها وإن كان غرف منها لبناء مسار تاريخي جديد من أجل انتصار وجد فجأة أنّه صعب التحقيق، وإن كان قد تراءى له عبر مسار خمسة وأربعين عاماً من عمره وعمر الجمهورية الإسلامية في طهران، أنّه بات قريباً. لذلك إنّ محاولة رفع المعنويات أظهرت الإحساس بالانكسار الذي لم يكن من الممكن إخفاؤه أو تلوينه أو تغييره. ليست مسألة بسيطة أن يكون الشعور الذي رافق اغتيال نصرالله وتشييعه مرادفاً لمقتل الحسين. لقد أظهرت الاحتفالية بوضوح أن الطائفة مجروحة ومهزومة ولكن من يتحمّل مسؤولية الهزيمة والجرح؟

في استعراض القوة حشد “الحزب” كل ما تبقى لديه من قوة. ولكنّ هذا الحشد صار ممكناً بعد الحصول على ضمانات إسرائيلية بعدم التعرض للاحتفال. مشهد الطائرات الحربية الإسرائيلية تعبر سماء لبنان وتمرّ فوق الحشود يعبّر عن النتيجة الصادمة للحرب، وعن الموقع الذي وصل إليه “الحزب”. لا تكفي صيحات “الموت لإسرائيل”، أو “لبيك يا نصرالله”، لتردم الهوّة التي باتت تفصل بين واقع “الحزب” الجديد وماضيه غير البعيد عندما كان السيد نصرالله يَعِدُ بتحرير القدس ويهدِّد بإزالة إسرائيل من الوجود ويقول إنّها أوهن من بيت العنكبوت.

محاولة التنفيس عن الحزن أظهرت كم كان الحزن كبيراً. مات السيد. تلك هي الحقيقة التي لا تصحيح لها ولا عودة عنها ومنها. ولكن من اغتال السيد؟ طبعا ليس معارضوه الذين نصحوه، أو حتى محبّوه الذين انتقدوه، الذين يهدّدهم “الحزب” في لبنان.

ما هي أسباب الهزيمة؟٩.

في وقائع ما بعد الحرب والاغتيال والتشييع، لا عودة إلى الوراء، بل تثبيت للوضع القائم في الجنوب. قرى مدمّرة. لا إمكانية للحياة بالمعنى الحقيقي. بقاء المواقع الإسرائيلية الخمسة داخل لبنان ولا نية بالانسحاب كما أعلن بنيامين نتنياهو. والأمر متعلّق بتنفيذ الجيش والحكومة مندرجات اتفاق وقف النار ونزع سلاح “الحزب” وتدمير ترسانته. الغارات الإسرائيلية مستمرّة من دون ردّ. حرية حركة إسرائيل ثابتة وموضوعة موضع التنفيذ من دون اعتراض “الحزب” والدولة. الغارات في لبنان تشبه الغارات في سوريا وحرية الحركة الإسرائيلية في الجو والبحر والبر ثابتة، وكأنّها قدر لا يمكن ردّه، أو حقّ تستخدمه.

حشود التشييع لا تغير المعادلة التي فرضتها الحرب العسكرية. وهذا ما يقود إلى سلسلة من الأسئلة التي على “الحزب” أن يجيب عنها:

هل يستطيع الحزب إجراء عملية نقد ذاتي لمعرفة أسباب الهزيمة؟

ما هي مسؤولية نصرالله شخصياً عن الهزيمة وهو الذي كان القائد في الحرب وفي السلم وواضع استراتيجية الردع؟

هل يستطيع “الحزب” أن يكتشف أسباب وأماكن الخرق الإسرائيلي؟ وإذا فعل هل يمكنه الإعلان عنها؟

إذا كان “الحزب” يسلّم بانتهاء استراتيجة الحرب والمواجهة ومساندة غزّة ضد إسرائيل وموافقاً، وفق منطقه وتفسيره لاتفاق وقف النار، على نزع سلاحه جنوب الليطاني، فلماذا يريد سلاحه شمال الليطاني؟ وضد من يمكن أن يستخدمه؟

لماذا تهديد أطراف في الداخل بالحرب والتفجير والانتقام بعدما شكّل هؤلاء الملاذ الآمن لمئات ألوف النازحين الذين يقارب عددهم عدد الذين احتشدوا في التشييع؟

هو المتهم باغتيالات كثيرة وبأنّه سيطر على السلطة وعلى التحقيقات الأولية وعلى القضاء والأجهزة الأمنية واعتقد أن هذه السيطرة مؤبّدة، هل سيكون من السهل عليه أن يخضع للسلطة والقضاء ولاستعادة الدولة سلطاتها؟ هل يسلِّم بمنطق الدولة؟ أم أنّه يريد أن يقول إنه خارج المحاسبة وفوق القانون؟

لا يمكن أن يتجاهل “الحزب” الرد على السؤال: ليش صار هيك؟ فشل القيادة العسكري وخسارة الأموال على التسليح لا يعوّضه استبسال المقاتلين في القرى الأمامية. فقد استشهدوا وسقطوا ضحية الخيارات الخاطئة وفشل القيادة.

يستقوي الحزب على مَن؟ ويهدّد مَن؟

يقف في مواجهته المسيحيون والدروز والسنة ومعارضوه الشيعة، من القوات إلى الكتائب والاشتراكي والمستقبل وحتى التيار الوطني الحر…

ويقف في مواجهته رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ولا يماشيه في كل ما يريده رئيس مجلس النواب.

ويقف في مواجهته الجيش وقوى الأمن خصوصاً مع احتمالات التغيير في القيادات وفي تبدّل الجو والعلاقة التبعية مع “الحزب”.

لا يستطيع “الحزب” أن ينفذ تهديداته. ولا يوجد أي طرف داخلي يمكنه أن يدخل في مواجهة عسكرية أو أمنية معه لأنّ أي طرف لا يملك لا الإرادة ولا الرغبة ولا القدرة على ذلك.

المواجهة إذا أرادها “الحزب” تكون مع السلطة الشرعية. كما حصل على طريق المطار. أي اشتباك سياسي أو أمني أو عسكري مع الجيش مثلاً أو مع رئيس الجمهورية والحكومة يجعل كل اللبنانيين ضد “الحزب” ومع السلطة.

لا يمكن أن ينقسم الجيش في مثل هذه المواجهة. الوضع مختلف عن مرحلة الانقسامات السابقة في 1976 و1983. لا مجال لـ 6 شباط جديدة. ولا لغزوة 7 أيار ثانية.

إذا غامر “الحزب” في أي مواجهة يكون كمن يحاصر نفسه بنفسه. وكمن يعزل بيئته عن محيطاتها.

حشود التشييع كانت لفكّ الحصار؟ ولكن من يحاصر “الحزب”؟ هو يحاصر نفسه بالأفكار التي يستمرّ بالترويج لها كأنّ تطبيق وقف النار والـ1701 لا ينصّ على تسليم ونزع سلاحه.

الحزب أراد من خلال الحشود أن يقول إنه يواجه حرب وجود. ولكنه هو الذي أدخل نفسه في مواجهة غير محسوبة أدّت إلى هذه النتائج ويريد أن يحمّل مسؤولية الفشل لغيره. إذا خسر الحرب ضد إسرائيل فلا يمكن أن يعوّض هذه الخسارة بصناعة انتصار في الداخل مهما كان ضد أي جهة كانت. كل هؤلاء يقولون له: “مش نحنا اللي قتلنا السيّد”.

اخترنا لك