بقلم كوثر شيا
الثورة مش بس نزول عالشارع وصراخ… الثورة الحقيقية إنو نعيش على المبادئ يلي ورثناها عن أجدادنا، ريحة الأرض يلي بتذكرنا كل يوم بكرامتنا، وننتفض ضد الفساد، الطغيان، المحاصصة، تسييس مؤسسات الدولة، سطوة السلاح، التعصب الطائفي، سرقة المال العام، السمسرة، وتبييض الأموال. الثورة هي حقنا بالعيش الكريم!
اليوم تذكّرت ليش عملنا ثورة ١٧ تشرين. رجعني الحنين لأيام المدرسة، أيام لبنان يلي حلمنا نعيش فيه…
بتتذكّروا معي ؟ كنا نحمل زوّادتنا: عروس زعتر وزيت، وحدة تانية بالمربى، ومي بالقنينة نحاس يلي نعبيها من الحنفية… كانت المي طعمتها غير، مثل مي النبع، غنية بكل المعادن من أرضنا الطيبة. كنا نوقف بالملعب، ننشد النشيد الوطني، نحيي العلم اللبناني بكل فخر، والأساتذة يراقبوا النظام والانضباط. كنا ندرس كتير، ما كان في إنترنت يشغلنا، والدروس كانت أولوية.
نرجع عالبيت، نلاقي الغدا جاهز، وستّي تجيب لي بندورة جبلية، ناكلها مع ملح خشن مش ملح مصنع. ناكل دبس وحلاوة بدون سكر أبيض مسمم الجسم وسكري. ما كنا نمرض كتير، لأن الأكل كان طبيعي عضوي، الناس كانوا يحبّوا الأرض، ياكلو بالفخار ويطبخو بالنحاس بالدست، يزرعوا ويتعبوا، وكان عرقهم مبارك.
اليوم؟ صرنا نشرب قهوة بفنجان بلاستيك ونكبّه من شباك السيارة. المشروبات الغازية صارت عادة، والسندويشات السريعة أخدت محل المجدرة والبرغل والتبولة. تغير طعم الأكل، لأن الأرض ما عادت مثل قبل… صارت المزارع تسقي بزرعها بمياه ملوثة، وصرنا نشرب مي معبّاية بقناني بلاستيك ندفع عليها بالدولار، لأن المي النقية ما عادت توصّل للبيوت مثل أيام زمان.
صرنا نشتري الأكل مسمّم بالكيماويات، والهواء ملوّث من المولدات، والبنى التحتية بعدها من زمن الانتداب. كل سلطة بتجي، بتكون أفشل من يلي قبلها… القطارات اختفت، صارت المرافئ والمرافق العامة بين إيدين المافيات، والزراعة ما عادت مربحة لأن المواد المستوردة قتلت الإنتاج المحلي. حتى الزبالة صارت أزمة، مع إن الحل بسيط: إعادة تدوير ومتابعة جدية من البلديات والمجتمع المحلي.
جدي كان يدهن الشجر بالكِلس ويستعمل الصابون البلدي ليحميه من الحشرات. اليوم استوردوا سموم ومبيدات عم تمتصّها الخضرة والفاكهة. حتى الكهربا؟ كانت تجي ٢٤/٢٤، ما كان في موتورات، ولا تلوث، ولا سمسرات. كان لبنان لبنان الأخضر، الجنة على الأرض.
اليوم، كلنا يعني كلنا، صرنا ثوّار… لما وقفنا وانتخبنا جوزيف عون ونواف سلام، لأنه بدنا الحلم يرجع. بدنا ناكل أكل صحي، نشرب مي نظيفة من أرضنا، بدنا كهربا صديقة للبيئة، بدنا فرز نفايات من المصدر، بدنا مؤسسات دولة تشتغل بمهنية وشفافية بعيدًا عن الرشاوي والفساد. بدنا اقتصاد حر منتج مندون شحادة على ظهر المواطن.
إلغاء. إلغاء السياسة الطائفية والمحاصصة ونرجع نفتح بوابنا ونعيش بسلام مثل أيام الماضي.
ثورتنا الحقيقية مش بس إسقاط سلطة… ثورتنا الحقيقية هي بناء دولة تحمينا وتحمي أولادنا، دولة بتحقق حلم لبنان الحقيقي، حلم كل لبناني خلق وعاش بأرض القديسين والأنبياء.
لكن الثورة الحقيقية لا تكتمل دون أن نواجه الحقيقة المُرّة: بلدنا تمزّق بسبب التفرقة الطائفية والمناطقية. كل منطقة صارت تعيش بعقلية منفصلة، وكل فئة تحارب الأخرى، بينما السلطة تستغل هذا الانقسام لتبقى مسيطرة. دمرنا بلدنا بأيدينا أكثر من مرة، وكل مرة نقول إننا سنعيد الإعمار…
لكن السؤال : هل الإعمار هو مشروع توطين جديد؟ أم أنه سيكون بداية لعودة اللبنانيين إلى قراهم وبلداتهم؟ هل سنستعيد عقولنا ونفهم أن الأرض هي العرض، هي الوطن، هي كل شيء، ولا تُستبدل بأي فكر مسموم أو مخطط خارجي يريد أن يتحكم بمصيرنا؟
كم مرة بعد سنعيد الإعمار؟ وكم مرة سنسمح بأن نُخدع بمشاريع ظاهرها الإنقاذ وباطنها التغيير الديموغرافي والسيطرة الخارجية؟ متى سنفهم أن لبنان ليس للبيع، وأن هويتنا لا تُشترى ولا تُباع؟ المؤامرات تحاول أن تمسخ عقول أولادنا، تفرّق مجتمعنا، تضعف جيشنا، وتنتزع استقلالنا وعروبتنا. لكن لبنان باقٍ… باقٍ بشعبه الحر، باقٍ بأرضه الطاهرة، باقٍ بإرادة أبنائه الذين لن يسمحوا لأي مخطط أن يغيّر هويته.
اليوم، كل آمالنا معلّقة على السلطة الجديدة، فهل ستكون على قدر المسؤولية؟ هل ستعمل من أجل الشعب وليس من أجل مصالحها الخاصة؟ هل ستكون بداية لعهد جديد، حيث المواطنة هي الأساس، حيث كل لبناني يعيش بكرامة في وطنه، حيث لا يحتاج أحدٌ للهجرة ليجد مستقبله، حيث الدولة تحمي المواطن، لا تحمي الفاسدين؟