بقلم غسان عبدالله – المدير العام للمنظمة الفلسطينية لحقوق الإنسان
يُمكن النظر إلى نتائج بعض القرارات والتهديدات والاقتراحات، و/أو حتّى تصور الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن تهجير غزة، إلى أنها تتراوح بين بالون اختبار سياسي لقياس أثر رد الفعل وإمكانية التجاوب والتطبيق وجدواه. وبين المناورة والخداع التفاوضي التكتيكي، ويمكن أن تصل إلى نمط سياسي استراتيجي غير تقليدي يُترجم في سلسلة مبادرات ومحاولات سياسية تُحدث تغييراً سياسياً جوهرياً، وهنا تكمن الخطورة، وعلى صعيد المثال وليس الحصر: قرار ترامب بشأن فرض رسوم جمركية إضافية على كندا والمكسيك، والتي انتهت مبدئياً بزيادة كليهما عدد عناصر الأمن على الحدود وضبطها؛ تهديده بإعادة احتلال بناما، إنتهى راهناً بإنهاء بناما لاتفاقية إدارة موقعين تديرهما شركة صينية مقرها في هونغ كونغ؛ أما عن إعلانه نيته ضم كندا كولاية إضافية للولايات المتحدة الأميركية، ووضع اليد على جزيرة غرين لاند الدنماركية، فانتهى أيضاً بعد توجه الدولتين إلى زيادة النفقات الأمنية والعسكرية…..الخ
تهجير غزة يرقى لتطهير عرقي
أما بشأن اقتراح وتصور ترامب بشأن تهجير الغزيين، وخصوصاً إن كان يعبّر عن نيّة حقيقية مبيّتة ومصحوبة بتصور أو خطة للإنجاز، فاقل ما يوصف به أنه عملية تهجير قسري جماعي ترقى إلى التطهير العرقي (أي جريمة ضد الإنسانية)، وتتخطى دعم عملية الإبادة الجماعية الإسرائيلية لتدخل حيّز المشاركة المباشرة في هذه الإبادة، وخصوصاً أنها تتطابق مع المخططات الإسرائيلية لناحية تهجير الفلسطينيين لمعالجة خطر القنبلة الديمغرافية كما أسماها ويصفها قادة إسرائيل، في دلالة على تقاطع الموقف الأميركي مع السياسة الإسرائيلية ذات الأبعاد الأيديولوجية، وهذا الأمر يشجع إسرائيل على الإستمرار في: تغيب دور السلطه الفلسطينية صاحبة الولاية على الضفة وغزة (وفق اتفاق أوسلو)، رغم رفضها لهجوم “٧ تشرين الاول / أكتوبر” منذ اللحظة الاولى؛ تجاهلها التام لاتفاق أوسلو الذي تم توقيعه في واشنطن برعاية أميركية؛ ضربها بعرض الحائط كافة المواثيق والاتفاقيات والقرارات والقوانين الدولية. هذا التصور إذا طبق يعد أحدث حلقات نكبة الشعب الفلسطيني المستمرة والهادفة إلى إنهاء قضيته وحقه في العودة وتقرير مصيره، وهي عملية استعمار حديثة بهدف تجاري رخيص.
ولا يبدو أن “اقتراح / تصور” الرئيس الأميركي دونالد ترامب بشأن تهجير الفلسطينيين من غزة وبناء “ريفييرا” في القطاع المدمر عن بكرة أبيه، مجرد مناورة تفاوضية / بالون اختبار، بل هي بمثابة مبادرة هادفة إلى إحداث تغيير سياسي منهجي وعميق يطاول القضية الفلسطينية عموماً ومسألة اللاجئين خصوصاً، بداية من مخيمات غزة والضفة وصولاً إلى مخيمات الشتات، وهنا تكمن خطورة ما ذهب إليه ترامب، وإن غلّفه أخيراً بقوله إنه لا يريد فرض رؤيته هذه لغزة، على الرغم من اقتناعه التام بها.
وتزامناً مع تخفيف ترامب من إلزامية رؤيته (وخصوصاً لمصر والأردن، الدولتين اللتين خصصهما كمكانين لاستقبال الغزيين، وقوله إنه متفاجئ لرفضهما هذه الرؤية، على الرغم من أن بلده يدفع مليارات الدولارات لهما كمساعدات، بما في ذلك من إشارات إلى ضغط مالي محتمل على الدولتين اللتين تنوءان تحت صعوبات مالية واقتصادية جمّة)، جاءت العملية الإسرائيلية الأخيرة على شمال الضفة الغربية المحتلة، وخصوصاً المناطق الشمالية منها، ولا سيما استهداف المخيمات تحديداً، لتضع النقاط على الحروف البارزة: اللاجئون هم أصل القضية، وتصفيتها هو الهدف الأول والأخير، ولا غضاضة هنا في أن سيف التصفية سلط بقوة على وكالة غوث وتشغيل لاجئي فلسطين في الشرق الأدنى (الأونروا) منذ هجوم “حماس” على مستعمرات غلاف غزة في 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023، عبر وصمها بالإرهاب والتعاون مع حماس ولعب موظفيها دوراً في الهجوم على المستعمرات المذكورة، وصولاً إلى تجريمها وإصدار قرارات في الكنيست (البرلمان الإسرائيلي) بحظرها في إسرائيل والقدس والضفة الغربية.
جديّة الاقتراح / التصور ارتباطاً بما قبله وما بعده
تنبع جديّة طرح ترامب التهجيري لغزة، والتنفيذ الفعلي الإسرائيلي لخطة موازية في الضفة الغربية، من أن الأمر ليس غير مسبوق، إذ له ما يربطه بسياسات سابقة اختطها ترامب والحكومة الإسرائيلية خلال فترة حكمه الأولى في البيت الأبيض (2016 – 2020)، إذ نفذ وعود انتخابية قدمهما لإسرائيل: نقل السفارة الأميركية إلى القدس؛ الاعتراف بالقدس عاصمة أبدية موحدة لإسرائيل؛ وقف تمويل الأونروا؛ فضلاً عن الاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان السوري المحتل.
وفي مستهل فترة حكمه الثانية التي جاءت في أعقاب انتخابات 2024، اقترح ترامب تصوره بشأن تهجير الغزيين من أرضهم واعتبار وطنهم مجرد عقار كبير ذي أهمية تطويرية عظمى، ترقى إلى أن تكون “ريفييرا” على شاطئ المتوسط. ولا يستبعد أن يكون هو من أعطى الضوء الأخضر لإسرائيل لشن هجوم واسع على مخيمات شمال الضفة الغربية (التي يتم حاليا تداول لتغيير اسمها داخل اروقة الولايات المتحدة الأميركية الرسمية ليصبح “يهودا والسامرة”)، والتي شهدت تدميراً ممنهجاً للبنية التحتية والأبنية وتهجير سكان العديد من تلك المخيمات، والإعلان عن أن الجيش الإسرائيلي سوف يبقى فيها ولن يسمح بعودة سكانها إليها، وهم أساساً مهجرون منذ سنة 1948 من قرى ومدن داخل ما يسمى بالخط الأخضر.
سوريا ولبنان وحديث التطبيع والتجنيس
من التطورات الإقليمية الناتجة عن تداعيات أحداث “7 تشرين الأول / أكتوبر 2023″، الضربة القاسية التي تلقاها حزب الله خلال المعركة التي أعلن أنها لإسناد غزة، واستغلتها إسرائيل لشن عملية واسعة النطاق استهدفت جميع المناطق التي يتواجد فيها حزب الله، فإن شظايا تلك التطورات طاولت سوريا التي عمدت هيئة تحرير الشام وحلفاء لها إلى شن معركة اسقطت فيه نظام آل الأسد، وشكلت نظاماً بديلاً لا يبدو أن اسرائيل مرتاحة له، حيث عمدت إلى احتلال مرتفعات جبل الشيخ المطلة والاستراتيجية، واستولت على المنطقة العازلة المتفق عليها بعد حرب 1973، وهذه الأمور يبدو أنها قد تكون مجال تفاوض مقابل تطبيع دمشق مع تل أبيب، وتجنيس اللاجئين الفلسطينيين شبه الموطنين في سوريا، وهو أمر يبدو أن القيادة الحالية منفتحة بشأنه، ولا سيما تجنيس اللاجئين الفلسطينيين.
أما لبنان الذي تضرر فيه حزب الله عسكريا وسياسياً وبات سلاحه على الطاولة، وبعد إتمام معالجة موضوع السلاح الفلسطيني خارج المخيمات والإعلان رسمياً عن تسلمه ووضع سلاح المخيمات على الطاولة أيضاً، بات إيجاد حل للاجئين الفلسطينيين فيه يبدو أسهل، وخصوصاً مع الضغوط الأميركية أيضاً باتجاه امكانية ضم لبنان إلى دائرة التطبيع في إطار الاتفاقات الابراهيمية.
مخاطر جديّة
ليس من الصعب ربط كل ما يحصل بالأفكار والخطط التي أعلنها ترامب وتلك التي يبيتها إزاء الشعب الفلسطيني، وخصوصاً قضية اللاجئين التي كان قد بادر في فترة حكمه الأولى باستئدافها، من خلال مسعاه لتقويض الأونروا مالياً كمقدمة لإلغائها.
إن مكمن الخطورة في هذا الاقتراح / التصور هو عند تحويل الحق وإحقاقه إلى وجهة نظر خاضعة لموازين القوى والمصالح المشتركة للقوى المُهيمنة، وليس للحقائق التاريخية الموثّقة، وللقوانين والعدالة. وإذا تم تدوير الزوايا وترك السكان الأصليين في القطاع، وذهبت الأمور نحو إعادة توطين لاجئين 1948 إلى غزة، والذين تبدو عودتهم إلى ديارهم شبه مستحيلة، بسبب الرفض الإسرائيلي المطلق، علماً بأن هؤلاء اللاجئين، وعلى الرغم من حيازتهم رقماً فلسطينياً وطنياً، وحقوقاً كاملة، فإنهم لا يزالون متمسكين بالأونروا والمخيمات كشكلين من أشكال إبقاء حق العودة الذي يرفضون التخلي عنه. وبالتالي غير متقبلين لفكرة التوطين في غزة حتى وإن كانت جميع عناصره قائمة، ما يخلق التباسا يمكن استغلاله، وتحويل العملية من جريمة إلى عملية إنسانية، تسهم في منح مرتكبيها / منفذها جائرة نوبل للسلام.
إذاً الخشية هنا، أن تُقدم القوى المهيمنة، بشكل مباشر أو غير مباشر، على استغلال حالة الاستضعاف، وخصوصاً الناتجة مؤخراً عن التدمير الواسع والممنهج لقطاع غزة بحيث يُصبح منطقة غير قابلة للحياة، وتتيح العودة بشكل أقصى إلى سكان القطاع الأصليين من دون لاجئي 1948، أو إضافة من يوافق من هؤلاء على العودة الى القطاع والعيش في شقة “لائقة” (كما أسماها وتطرق إليها ترامب خلال فترة تخبطه بالحديث عن ترحيل مؤقت قصير ويمكن أن يكون طويل الأمد، وبعدها اللاعودة) في تجمع سكني ببناء حديث بعدما تُلغى المخيمات، وذلك مقابل التخلي عن حق العودة إلى الأماكن التي هجر منها أهله في سنة 1948، والمنصوص عليها في القرار 194.
ما العمل؟
السؤال الكلاسيكي هنا هو “ما العمل؟”، أما الجواب فيتطلب منا التفكير بشكل غير تقليدي، مثلما هو طرح ترامب غير تقليدي، وذلك عبر تطوير استراتيجيات ووضع آليات ومنهجيات تتيح تواجدنا في المعادلة القائمة كطرف أصيل وتحفظ شراكتنا في المعادلة السياسية، وخصوصاً أن المعادلات القديمة بجميع أشكالها باتت بلا جدوى، وهو أمر أثبته التطورات التي تلت 7 تشرين الأول / أكتوبر 2023.
هذه المرحلة لا تتطلب فحسب أستيعادة النخب الاجتماعية المدنية والسياسية والتكنوقراطية، وخصوصاً تلك التي تتمتع باستقلالية تامة عن جميع الفصائل الفلسطينية، ولاسيما الكبرى منها (فتح وحماس)، دورهم الطبيعي والطليعي كشركاء أساسيين وجزء لا يتجزأ من الشرعية الفلسطينية. كما تتطلب من جميع الفصائل تفهم ذلك وتسهيله والترفع عن المصالح الضيقة وإنهاء حالة الصراع الداخلي غير المجدية بل القاتلة، والانطواء تحت الشرعية الفلسطينية وحمايتها من خلال إجراء مراجعة جادّة ورشيدة تضمن استمرارها كجزء لا يتجزأ من الشرعية العربية والدولية، ومن الجميع كأصحاب للقضية والحق الأصلانيين ابداء المرونة اللازمة والتضحية في سبيل المصلحة العامة والبقاء، أي نعم “البقاء” لهاذا الحد خطورة الموقف.
وتتطلب أيضاً ضرورة أن يُضحي أصحاب المصلحة في المحيط المباشر والقريب بالمصالح الذاتية وإبداء مرونة وتعاون وتقديم المساعدة، على أن تكون المصالح والمنافع المشتركة محفوظة ليتمكن الجميع من الحفاظ على حقوقهم وفرض شراكتهم مع الأقوى المستشرس الذي يعمل على ضمان مصالحه. ويجب أن يبقى في سلم أولويات الدول العربية خصوصاً، والمحيط الأوروبي عموماً، أن تمرير جريمة إنهاء القضية الفلسطينية، وتحويل الفلسطينيين: اللاجئين السابقين ومن يستجد من السكان الأصليين إلى لاجئين، إلى مجرد أرقام يتم توزيعها على هذه الدولة وتلك تحت تهديد حجب المساعدات المالية، كل ذلك لن يبقى أثره محصوراً بالفلسطينيين، بل ستمتد أضراره لتطال أولاً البعد العربي القريب، ومن ثم البعد الأوروبي البعيد. ما يتتطلب مبادرة عربية أوروبية مشتركة للتضامن واحتضان الفلسطينيين من دون أي مساومة بذلك على حق العودة وتقرير المصير وإقامة دولة مستقلة ذات سيادة.
إن طرح ترامب بشأن تهجير غزة، وعدم ممانعته فيما يبدو ضم الضفة الغربية إلى إسرائيل، وتقويض أي احتمال ولو نظرياً لإنشاء دولة فلسطينية، يحتاج إلى استراتيجية مواجهة عربية موحدة، وما يملكه العرب من ورقة قوة هي مبادرة السلام العربية التي طرحت في مؤتمر القمة العربية في بيروت في سنة 2002، فضلاً عن: اتفاق أوسلو (الموقع برعاية أميركية) الذي ينص على ولاية السلطه الفلسطينية الحصرية على الضفة وغزة؛ ومواقف السلطه الساعية للسلام والرافضة شكلاً ومضموناً لهجوم ٧ أكتوبر واي أعمال شبيها. كذلك الاستفادة من الدور السعودي المتصاعد التأثير في الإقليم وعلى مستوى دولي، وتصديه إلى محاولات القضاء على فكرة الدولة الفلسطينية عبر تأسيس تحالف دولي لتثبيت فكرة الدولة الفلسطينية وتحويلها إلى واقع، وهو أمر ممكن إذا اجتمع العرب الذين يملكون قدرات اقتصادية وجغرافية استراتيجية هائلة.
هنا لا بد من التخلي عن قطبية دول عربية كانت يوماً في مستوى قوى إقليمية، والنظر ببراغماتية للواقع الذي يضع دول الخليج حالياً في مقدمة الدول العربية القادرة، ولا سيما المملكة العربية السعودية صاحبة أقوى اقتصاد، والتي أثبتت تمسكها بسيادة قراراتها بغض النظر عن الضغوط، بل وتعمل جاهدة على فرض نفسها كقوة إقليمية ذات تأثير دولي.