بقلم عباس هدلا
على سجية الطوائف والمذاهب الأخرى، تأسّس للشيعة في لبنان في 16 أيار 1969 المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، والذي تعدّدت أسبابه الموجبة في اقتراح قانون إنشائه المقدم إلى المجلس النيابي عام 1966، ومنها «حباً في توحيد الجهود الخيرة وتجنيد الطاقات الإنسانية لرفع مستوى الطائفة الإسلامية الشيعية في لبنان خلقياً واجتماعياً وثقافياً» ومن أجل «تنظيم الأوقاف والانتفاع بها لمصلحة المجموع»، و «بث روح التعاون الصادق بين الطائفة وشقيقاتها الطوائف الأخرى» و«تدعيماً لوحدة الوطن وتقوية كيانه»، و «طلباً لرفع مستوى الطائفة الإسلامية الشيعية التي تعدّ دعامة كبرى في كيان لبنان، وتعزيز معنوياتها».
ونحن اليوم بعد مرور أكثر من نصف قرن على إنشاء هذا المجلس، ماذا تحقق من هذه الأسباب؟ وهل قام المجلس بالدور الذي أنشئ لأجله؟ وهل يجسّد واقعه اليوم نبالة الفكرة التي تأسّس لأجلها؟ وهل حفظ حقوق الشيعة وساعد على حلّ مشاكلهم الاجتماعية، كما أعلن السيّد موسى الصدر عند تقديم المشروع؟ أم أنه أضحى هيكلاً فارغاً من الداخل، وعنواناً ومنبراً يأتمر بمن هيمن وقبض على شؤون وشجون الطائفة وعلى حياتها السياسية؟
الولادة
ورد في كتاب «المؤسسة الدينية الشيعية الرسمية» الصادر عن مؤسسة «أمم للتوثيق والأبحاث» عام 2023، أن الزعيم الشيعي أحمد الأسعد عمل في أربعينات القرن الماضي على الحصول على رخصة بإنشاء جمعية شيعية عامة باسم «المجلس الإسلامي الشيعي»، كما تقدّم النائب البقاعي شفيق مرتضى في الخمسينات بقانون إلى مجلس النواب لتأسيس مجلس شيعي أعلى، لكنّ البذور الأساسية لولادة هذا المجلس، بدأت مع اجتماع في 16 شباط 1966 ضمّ عدداً من الشخصيات والعلماء والنواب الشيعة في مقرّ جمعية الهداية والإرشاد العلمية، وتمخّض عن الاجتماع تشكيل لجنة ضمّت العديد من الشخصيات كرئيس المحكمة الجعفرية العليا حسين الخطيب والسيد موسى الصدر وجعفر شرف الدين ومحسن سليم، ورفعت اللجنة بياناً إلى رئيس الجمهورية شارل الحلو تطالبه فيه بإنصاف الطائفة الشيعية وتبلغه تحويل اجتماعهم إلى مؤتمر دائم للمطالبة بتحقيق المطالب المشروعة للطائفة، كما طالبت بـ«ترسيخ مبدأ الوحدة الوطنية الغالية التي ينادي بها المسؤولون في الدولة خصوصاً أن الكفاءات والطاقات العلمية متوفرة في هذه الطائفة أسوة ببقية الطوائف والفئات اللبنانية الأخرى». وتقدّم عشرة نواب شيعة، بينهم كامل الأسعد بمشروع تأسيس المجلس إلى البرلمان، وأقرّ هذا المشروع نهائياً في 19 كانون الأول 1967 بعد مناقشات وتعديلات.
لاقى هذا القانون اعتراضاً من الكثير من رجال الدين الشيعة، ومنهم الشيخ محمد جواد مغنية والشيخ حسين الخطيب والسيد محمد حسين فضل اللّه. كما اعترض عليه كامل الأسعد لخروج التعديلات عن سياق المشروع الأساسي، ورفعت عريضة إلى رئيس الجمهورية يطالب فيها الموقّعون بتعديل القانون لأنه لم يراعِ المواد التي اتفق عليها علماء الطائفة ولا سيّما جعله من رئاسة المجلس الشيعي أرفع منصب ديني للطائفة في لبنان بيد أغلبية أعضاء ليسوا من رجال الدين.
على الرغم من هذا الاعتراض، سلك المجلس طريقه إلى الحياة وجرت انتخابات هيئتيه الشرعية والتنفيذية في 16 أيار 1969 وسط مقاطعة عدد من علماء الطائفة الشيعية، وفازت الهيئة الشرعية بالتزكية، فيما خرجت انتخابات حامية للهيئة التنفيذية، وفي 21 أيار من العام نفسه، تم انتخاب السيد موسى الصدر رئيساً للمجلس، وفي 21 آب من السنة نفسها تم تحديد النظام الداخلي للمجلس.
المجلس بين التعديل والتهميش والترهّل
انطلق عمل المجلس تحت عباءة رئيسه السيد موسى الصدر في مختلف الميادين، وبدأ العمل على مشاريع تفيد أبناء الطائفة وتتعلّق بالعمل الإنساني، وكانت مواقف المجلس متجانسة مع مزاج الشارع الشيعي، فأعلن رئيسه يوم الجنوب في أيار عام 1970، كما دعم انتفاضة مزارعي التبغ في كانون الثاني عام 1973، ودعا إلى حماية المعتصمين والتوقّف عن تعذيب المعتقلين.
ترافقت انتهاء الولاية الأولى للمجلس مع اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، فتقرّر تمديد ولاية رئيس المجلس من 6 سنوات حتى إتمامه الـ 65 من العمر، وذلك استناداً لدراسة قانونية للأستاذ محسن سليم.
بعد تغييب السيد موسى الصدر في أيلول 1978، عيّن الشيخ محمد مهدي شمس الدين نائباً للرئيس، وقاد المجلس في ظروف الحرب الأهلية وظهور جماعة مشروع تصدير الثورة الإسلامية في إيران «حزب اللّه» محافظاً على استقلاليته، وسط تراجع دوره بفعل هيمنة حركة «أمل» و«حزب اللّه» على المشهد الريادي في الطائفة، وفي عام 1994 انتخب شمس الدين رئيساً للمجلس بعد أن أنهى الصدر السن القانونية (65 عاماً). وبات الصدر رئيساً مؤسساً للمجلس مدى الحياة، وانتخب المفتي الجعفري الممتاز الشيخ عبد الأمير قبلان نائباً للرئيس، حافظ شمس الدين على استقلالية المجلس رغم محاولة «الثنائي» التدخل في المجلس والسيطرة عليه إلى أن توفي في عام 2001، وتولى الشيخ قبلان بصفته نائباً للرئيس مهام الرئاسة إلى شباط 2017 حيث عيّن رئيساً للمجلس بإجماع الهيئتين الشرعية والتنفيذية، رغم تجاوزه الثمانين من العمر، ورغم أنه ليس من المجتهدين المطلقين في الأوساط الدينية، وتم إعطاء الصلاحية لرئيس المجلس لتعيين الأعضاء الجدد في الهيئتين.
وتحوّل المجلس إلى منبر يتماشى مع أهواء «الثنائي»، وبالتالي لم يعد له ثقل إلّا في إطار المنصب الديني الأعلى للشيعة في لبنان دون أن يكون له الثقل التمثيلي الفعلي لهم. كما ساهمت تركيبة السلطة القائمة على الطوائف في لبنان في المساهمة في حماية المخالفات والانتهاكات وتمرير كل القوانين وتعديلاتها التي ساهمت في جعل المجلس فارغاً من أي فعالية، وتحوّل الانتخاب في المجلس إلى تعيين، وتم إنهاء أي دور للهيئة العامة، ما أفقد المجلس شرعية التمثيل العام للطائفة الشيعية، فأضحى مجلس «الثنائي» لا مجلس الطائفة، كما أن القضاء لم يكن فعّالاً في متابعة القضايا التي رفعت على المجلس لمخالفته القانون والنظام العام فيه، كالدعوى المقدمة من الشيخ محمد علي الحاج وراشد حمادة ولقمان سليم أمام مجلس شورى الدولة بشأن مخالفات قانونية في المجلس تعدّ إخلالاً بالنظام العام عام 2012 والتي لا تزال حتى اليوم نائمة في الأدراج.
في 4 أيلول 2021 توفّي الشيخ قبلان وتولّى الشيخ علي الخطيب نائب الرئيس مهام الرئيس، وحتى يومنا هذا، لم يتم انتخاب رئيس للمجلس، وهو على ما يبدو، اعتماداً على عرف يمكن أن يكون قد أضحى سائداً منذ وفاة الشيخ شمس الدين، وهو أن المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى أصبح موضوعاً جانبياً في اهتمامات «الثنائي» المهيمن على الحياة الشيعية، وبات المجلس في وجدان «الثنائي» لزوم ما لا يلزم.