بقلم كوثر شيا
في اليوم العالمي للمرأة، نقف أمام مشهدٍ متجذر في أعماق التاريخ: المرأة اللبنانية التي قادت، ثارت، بنت، وداوت جراح الوطن بصمتٍ وعزمٍ لا يتزعزع. ليست القضية اليوم قضية منافسة أو إثبات جدارة، فالمرأة اللبنانية كانت وما زالت في قلب الأحداث، تصنع التغيير رغم محاولات التهميش. من ملكات فينيقيا اللواتي أرسين قواعد التجارة العالمية، إلى الثائرات اللواتي صرخن في ساحات الانتفاضة، ومن السيدات اللواتي أعَدْن بناء بيروت بعد الانفجار، إلى القياديات في المجتمع المدني اللواتي كنَّ بديلاً عن دولة غائبة—كل امرأة لبنانية هي ثورة في حد ذاتها.
إرثٌ من القيادة: المرأة اللبنانية عبر العصور
إذا عدنا إلى الماضي، نجد أن المرأة اللبنانية لم تكن تابعًا، بل كانت أساسًا في بناء الحضارات:
• أليسار، ملكة قرطاج: فينيقية هربت من صور وأسست واحدة من أعظم الإمبراطوريات التجارية في التاريخ، دون الحاجة إلى حرب أو احتلال.
• كاهنات عشتروت: قُدنَ الطقوس والاقتصاد في المدن الفينيقية، ووصل نفوذهن إلى روما القديمة.
• نازك العابد: ابنة بيروت التي شاركت في الثورة ضد الاحتلال الفرنسي وكانت أول امرأة تحصل على رتبة عسكرية في الجيش.
هذا الإرث لم يُمحَ، بل استمر في كل امرأة قررت أن تصنع مستقبلها بيديها.
الثورة اللبنانية كانت أنثى
في انتفاضة 17 تشرين الأول 2019، كانت المرأة في الصفوف الأمامية:
• تقدمت المظاهرات، وهتفت بالحرية، وكانت الدرع الحامي للمتظاهرين في وجه العنف.
• نظمت الساحات، وأقامت حلقات النقاش، ووفرت الطعام والدواء للثائرين.
• أدارت الأزمات، كما فعلت الناشطة سالي الحاف، التي كانت بين أوائل من نظموا الإغاثة للجرحى والمعتقلين.
• واجهت القمع بشجاعة، كما فعلت الفتاة التي صَفعَتْ موكب الوزير في بداية الثورة، لتصبح أيقونة في تحدي السلطة الفاسدة.
كما كُتب يومها على الجدران: “الثورة أنثى.” لم يكن ذلك مجرد شعار، بل كان حقيقة جسّدتها النساء بكل ما لديهن من إصرار.
المرأة كبديل عن الدولة: الجمعيات النسائية التي أنقذت لبنان
بينما غاب المسؤولون عن أدوارهم، كانت هناك نساء يعملن بصمت، يقمن بملء الفراغ الذي تركته الدولة:
• مبادرة “بيت البركة” التي أسستها امراة، وأعادت تأهيل البيوت المدمرة بعد انفجار المرفأ، ووفرت الغذاء لكبار السن.
• جمعية “كفى” “فيفتي فيفتي”، التي عملت على تدريب السيدات وتمكين للعمل السياسي على حماية النساء من العنف الأسري وتغيير القوانين المجحفة.
• “نحن”، “Fe-Male”، “المجلس النسائي اللبناني”، وغيرها من الجمعيات التي أسستها النساء، وقادت حملات ضد الاغتصاب الزوجي وزواج القاصرات.
• مبادرة “Beirut Relief Coalition” التي جمعت متطوعات من مختلف الطوائف لإعادة إعمار بيروت، بينما كان السياسيون يتبادلون الاتهامات.
هؤلاء النساء لم يحتجن إلى سلطة رسمية ليحدثن التغيير. صنعن دولة داخل الدولة، وكنَّ الملاذ الوحيد لشعبٍ تركه حكامه لمصيره.
نساء في السلطة: خمس وزيرات في الحكومة الجديدة
رغم الصعوبات، نجحت خمس نساء في دخول الحكومة الجديدة، وهنَّ يمثلن صوتًا جديدًا للتغيير:
1. ريما كرامي (وزيرة التربية والتعليم العالي): خبيرة في إصلاح التعليم، تسعى إلى إعادة بناء المدارس والجامعات في ظل أزمة اقتصادية خانقة.
2. هنين السيد (وزيرة الشؤون الاجتماعية): مستشارة سابقة في البنك الدولي، تتعامل مع الفقر والأزمة الاجتماعية المتفاقمة.
3. لورا خازن لحود (وزيرة السياحة): اقتصادية بارزة، تسعى لإحياء قطاع السياحة رغم التحديات.
4. تمارا الزين (وزيرة البيئة): خبيرة بيئية، تواجه معركة كبرى ضد التلوث وانهيار البنية التحتية البيئية.
5. نورا بايراكداريان (وزيرة الشباب والرياضة): أكاديمية، تعمل على تمكين الشباب اللبناني.
وجودهن في الحكومة خطوة، لكن التغيير الحقيقي سيحدث حين تصبح المرأة ممثلة بشكل متساوٍ في صنع القرار، لا مجرد استثناء.
المفارقة: “تمكين المرأة” في لبنان مجرد ديكور؟
رغم كل الجهود، لا تزال المرأة اللبنانية تعاني من تهميش سياسي واقتصادي:
• لبنان يحتل المرتبة 145 عالميًا في تمثيل المرأة سياسيًا، بنسبة 4.7% فقط في البرلمان.
• قوانين الأحوال الشخصية لا تزال تحت سيطرة المحاكم الدينية، مما يحد من حقوق النساء في الزواج، الطلاق، والحضانة.
• المرأة اللبنانية لا تزال غير قادرة على منح جنسيتها لأولادها.
السياسيون يتحدثون عن “تمكين المرأة”، لكن الواقع يظهر أنهم يخشون تمكينها الحقيقي.
الطريق إلى المستقبل: نساء يصنعن التغيير بلا ضجيج
• د. نجاة صليبا: العالمة التي كشفت كارثة التلوث في بيروت، ودخلت البرلمان رغم كل التحديات.
• أغاريت يونان: التي تحدت الطائفية وأسست أول مبادرة لقانون أحوال شخصية مدني.
• نادين لبكي: المخرجة التي وثّقت قصص الفقراء واللاجئين في أفلامها، وجعلت العالم يسمع أصوات النساء المسحوقات.
هؤلاء النساء لم ينتظرن مقعدًا في البرلمان ليغيرن الواقع—بل فرضن التغيير بعملهن.
تحية إلى كل امرأة تعمل بصمت
في هذا اليوم، التحية ليست فقط لمن ظهرت في الإعلام أو دخلت السياسة. بل إلى:
• الأم التي تدير منزلها رغم الأزمة الاقتصادية.
• الممرضة التي لم تغادر المستشفى رغم الخطر.
• المعلمة التي تعمل بلا راتب.
• المتطوعة التي تنظف شوارع بيروت بعد كل كارثة.
إلى كل امرأة لم يكتب عنها الإعلام، ولم تذكرها الصحف، لكنها كانت العمود الفقري لهذا الوطن.
“الأرزة لا تنكسر”
المرأة اللبنانية لم تكن يومًا بحاجة إلى من “يمكنها”. كانت دائمًا صانعة القرار، حتى عندما تجاهلها التاريخ الرسمي. من كاهنات صور، إلى ثائرات تشرين، إلى المتطوعات في زمن الأزمات—المرأة اللبنانية لا تنتظر الفرص، بل تخلقها.
وفي هذا اليوم، نقول لكل امرأة لبنانية:
“أنتِ الثورة، أنتِ الدولة، وأنتِ المستقبل. لا تسمحي لأحد أن يخبركِ عكس ذلك.”