بقلم ميراز الجندي – كاتب ومحلل سياسي
لبنان وسورية تربطهما علاقة عميقة وطويلة الأمد تكتسب بعدها الجغرافي والتاريخي والثقافي. إذ أن لبنان، ذلك البلد الصغير الذي يعد لؤلؤة الشرق، وسورية، العمق الاستراتيجي والتاريخي له، يظلان معًا بمثابة رموز لدورة حضارية متكاملة. ومع ذلك تمر هذه العلاقة بتقلبات شديدة نتيجة السياسات المتغيرة والمواقف الدولية والمحلية التي تأثرت كثيرًا بالوضع السياسي في المنطقة.
التاريخ المشترك والآلام السياسية
لم يكن سرًّا أن سورية في ظل حكم النظام البائد كانت مصدر قلق للبنان، فهي لطالما شكّلت عائقًا أمام استقلاله السياسي وأساءت إلى اقتصاده وأمنه الاجتماعي. احتلالها للبنان في تسعينات القرن الماضي والهيمنة على قراراته الداخلية، كانت تُعدّ مرحلة مظلمة في تاريخ العلاقات بين البلدين. وكان اغتيال الرئيس رفيق الحريري2005 نقطة تحول بارزة، حيث خرجت القوات السورية من لبنان بعد ضغط دولي شعبي هائل.
لكن التغيير الحاصل في المنطقة في السنوات الأخيرة قد انعكس بشكلٍ كبير على العلاقة بين البلدين. انطلاق الثورة السورية في عام 2011 أحدث تحولًا جذريًا في المشهد السياسي، فبينما دافعت ميليشيا ح,ز,ب الله المدعومة من إيران عن النظام السوري، كانت هناك آمال كبيرة بأن يصل الشعب السوري إلى مرحلة الحرية والديمقراطية.
سوريا بعد الثورة: نحو بناء دولة جديدة
ومع مرور السنوات، نجد أن سورية بدأت تشهد مرحلة جديدة من التحولات التي أعادت تشكيل واقعها السياسي والعسكري. فبعد انتصار الثورة، وموافقة الفصائل السوري على تولي السيد أحمد الشرع القيادة الانتقالية في سورية، وفي ظل الظروف الحالية التي تشهدها المنطقة، فإن فرصة بناء علاقات جديدة بين سورية ولبنان أصبحت متاحة. على لبنان أن يتوجه نحو سياسة جديدة قائمة على الاحترام المتبادل والاهتمام بالمصالح المشتركة.
عوامل بناء علاقة جديدة
1. الحدود وترسيمها:
إن ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا يجب أن يكون الأولوية في بناء علاقات مستقرة بين البلدين. على الدولتين أن يضعا خارطة طريق واضحة بشأن الحدود البرية والبحرية، ويقومان بالحد من التهريب وتهديدات الأمن عبر الحدود المشتركة. العودة إلى تطبيق قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بالحدود، مثل القرار 1701 و1680، هو خطوة أساسية لتفادي المشاكل المستمرة عبر الحدود.
2. الاتفاقات الاقتصادية والتجارية:
لبنان وسورية يحتاجان إلى الاتفاق على ملامح جديدة للعلاقات الاقتصادية والتجارية. يُعتبر التعاون بين البلدين في مجالات مثل الطاقة، الزراعة، والسياحة مهمًا جدًا. من المهم أن يعمل الجانبان على تعزيز التجارة الحرة وإزالة العراقيل التي تواجه التبادل التجاري بينهما. علاوة على ذلك، يجب الاتفاق على استثمارات مشتركة تؤسس لاقتصاد متكامل يعزز الاستقرار في المنطقة.
3. الالتزام بسيادة الدول:
على لبنان وسورية احترام سيادة كل منهما بشكل كامل. فلا يمكن أن تستمر أي دولة في التدخل بالشؤون الداخلية لدولة أخرى تحت أي ذريعة كانت، سواء كانت عسكرية أو سياسية…
الالتزام بسيادة الدول يعزز العلاقات ويمنح الثقة للشعب اللبناني والسوري بأنهم سيستطيعون بناء المستقبل بأيدٍ وطنية.
4. المنظمات الدولية:
دور الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الدولية يمكن أن يكون محوريًا في تسهيل عملية بناء هذه العلاقات. يُمكن للبنان وسورية التعاون في هذا المجال لتحقيق التقدم على المستوى السياسي، الاقتصادي، والاجتماعي. بالإضافة إلى أنه يجب تعزيز التعاون مع المجتمع الدولي للحصول على الدعم في تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة.
5. المصالحة الشعبية والشبابية:
يجب أن تكون هناك آلية للمصالحة بين الشعبين اللبناني والسوري على المستوى الشعبي. فالعلاقات الثقافية والتاريخية التي تجمع بين الشعبين هي ركيزة مهمة للسلام في المنطقة. بناء علاقات ثقة بين الأجيال الجديدة من خلال المبادرات الثقافية والتعليمية سيساعد على تعزيز السلام الأهلي والاستقرار الاجتماعي.
6. الأمن المشترك ومحاربة الإرهاب:
من الأهمية بمكان أن يتعاون لبنان وسوريا في محاربة الإرهاب والجريمة المنظمة. الحدود المشتركة تعتبر نقطة ضعف كبيرة إذا لم يتم التنسيق بين الجانبين بشأن محاربة الجماعات الإرهابية التي قد تشكل تهديدًا للأمن الوطني لكلي البلدين. التنسيق الأمني بين لبنان وسوريا، إضافة إلى التعاون في مكافحة المخدرات، الأسلحة غير الشرعية، والتهريب، هو ضرورة لتوفير بيئة آمنة لشعبي البلدين.
لبنان وسوريا: علاقة تكاملية وليست تنافسية
المستقبل المشترك بين لبنان وسورية يعتمد بشكل أساسي على العمل المشترك بعيدًا عن أي تدخلات خارجية. الدولتان لا ينبغي أن تكونا رهينة لأجندات إقليمية أو دولية. التكامل بين البلدين يمكن أن يكون نموذجًا للعالم العربي إذا تم بناءه على أسس من الاحترام المتبادل، والعدل، والمصالح المشتركة.
في الختام، نقول إن سوريا القوية بجيشها، بالأمن، بالعدل، والسلام هي قوة للبنان، وهي العمق الجغرافي له. لن يكون لبنان خاصرة سورية الرخوة، ولن تكون سوريا مصدر قلق للبنان بعد الآن.
اليوم علينا أن نبني علاقات جديدة قائمة على الاستقرار والشراكة الحقيقية، من خلال تنفيذ الإصلاحات الضرورية ومعالجة الملفات التي لا تزال معلقة بين البلدين.
هذا هو احد الروافد الاساسية لتحقيق السلام والاستقرار في المنطقة. لبنان وسورية قادران على العبور إلى مرحلة جديدة من التعاون والتنمية لمستقبل أفضل لشعبيهما.