كتب د. عاطف عبد العزيز عتمان – جمهورية مصر العربية
كل من هو ليس أنا فهو آخر، فكيف نتعامل مع الآخر؟ نواصل الرحلة مع سماحة العلامة السيّد علي الأمين.
الآخر، سواء كان عقائدياً أو مذهبياً، هو الإنسان بمعنى أشمل… أين يقع الآخر في فكر سماحتكم؟ كيف نتعايش مع الآخر ونقبله دون تفريط في ثوابتنا؟ كيف نحقق خلافة الله في أرضه ونعطي رحم حواء صلته؟
يقول سماحة العلامة السيّد علي الأمين: إن الناظر في حياة الأمم والشعوب والمجتمعات يدرك أن الاختلاف حقيقة قائمة في لغاتها وعاداتها وتقاليدها وفي أشكالها وألوانها. وهذا الاختلاف هنا بمعنى المغايرة الشاملة للأفراد أيضاً، حيث إن لكل فرد وجوداً خاصاً به يمتاز به عن غيره.
وهذه الوجودات المتعددة هي التي يُعبَّر عنها في اللغة بـ”أنا وأنت وهو وهي وهم وهن” وغير ذلك من الألفاظ التي وُضعت في اللغة للدلالة على هذه الوجودات المتعددة والتي يختلف بعضها عن البعض الآخر. وكل واحد منها يشكل معنى جزئياً حقيقياً كما يقول علماء المنطق في تعريفه بأنه “المعنى الجزئي الذي يمتنع انطباقه على أكثر من فرد”.
وقد عبّر القرآن الكريم عن هذا الاختلاف بمعنى التعدد والتغاير بأنه من آيات الله سبحانه وتعالى:
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ﴾ (الروم: 22).
ومن خلال ما تقدم، يتبين لنا أن هذا الاختلاف بالمعنى المتقدم هو سنّة من سنن الخلق والتكوين، فهو بمعنى الاختلاف عن الآخر، وهو لا يعني بالضرورة الخلاف والاختلاف مع الآخر. فقد تجتمع الأفراد والجماعات على قواسم مشتركة وعلى قواعد عامة في قضايا الفكر والسلوك والنظام العام رغم وجود الاختلافات الكثيرة بينهم في عالم الآراء والأفكار والإرادات والمعتقدات، حيث لا وجود للاستنساخ في عالم العقل الإنساني وما ينتج عن إعماله في حقول العلم والمعرفة.
وفي القرآن الكريم أيضاً إشارة جلية إلى حقيقة الاختلاف الفكري بين بني البشر كما جاء في قوله تعالى:
﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ…﴾ (يونس: 99).
وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ…﴾ (هود: 118-119).
وقوله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ (المائدة: 48).
والمستفاد من هذه النماذج من الآيات المباركات أن الاختلاف في الآراء والمعتقدات هو حقيقة قائمة أيضاً وباقية إلى يوم القيامة، ولكن الحياة الدنيا هي المجال لاستباق الخيرات والتنافس عليها رغم تعدد آرائنا واختلاف أفكارنا ومعتقداتنا. وبفعل الخيرات والسعي إليها، يُجسّد الإنسان أسمى المعاني لخلافة الله في الأرض.
وقد تَحصّل أن الفكرة التي ترمي إليها الآيات، وهي الواقع الذي نشاهده ونعيشه في حياتنا، أن الاختلاف بين الأفراد والجماعات والأمم والشعوب لا يقتصر على الاختلاف التكويني بينهم الذي يستلزم التعدد والتكاثر، بل هو يشمل عالم الفكر أيضاً وما يتفرع عنه.
وهذه الحقيقة يجب القبول بها والانطلاق منها في عالم العلاقات التي نبنيها مع الآخر، سواء كانت بين فرد وآخر، أو جماعة مع جماعة أخرى في الأمة الواحدة، أو بين أمة وأخرى، على قاعدة قوله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات: 13).
هذا هو الآخر، وهذه هي موازين التعايش معه، وإن كان مختلفاً في الدين والمذهب واللغة والعرق واللون، فهو يشكل جزءاً لا يتجزأ من المجتمع الداخلي الذي نعيش معه داخل الوطن، أو من المجتمع الدولي الذي لا بد من التواصل معه…
وعلى كلا التقديرين، لا يكون هناك مجتمع بدون الآخر، وهو في كلتا الحالتين فرد من العائلة البشرية الواحدة، كما ورد في الحديث الشريف: “الخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللَّهِ، وَأَحَبُّهُمْ إِلَيْهِ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ”، وعن الإمام علي: “النَّاسُ صِنْفَانِ، إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، أَوْ نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ”.