بقلم ميراز الجندي – كاتب ومحلل سياسي
لطالما كانت قضية التهميش في لبنان موضوعًا يتكرر في النقاشات السياسية والاجتماعية، ولكن للأسف، يبدو أن هذه القضية قد أصبحت جزءًا من الموروث السياسي للبنان الذي لم يُحل بشكل حقيقي. إن البكاء على التهميش، في الواقع، مثل الوقوف على الأطلال دون أن يتم اتخاذ خطوات عملية لتغيير الواقع، يظل مجرد صرخة في الهواء. لهذا، لم يعد من المهم أن نتحدث عن مذهب الموظف أو منطقته، بل الأهم هو تطبيق القانون بشكل متساوٍ، لضمان حصول جميع المواطنين على حقوقهم وحرياتهم دون تمييز على أساس الطائفة أو المنطقة. إن المواطن اللبناني، سواء كان في عكار أو في بيروت، يجب أن يُعامل بالتساوي تحت إطار من العدالة والمساواة.
إن الخطوات الملموسة والعملية في معالجة التهميش هي السبيل الوحيد للوصول إلى دولة حقيقية يسودها مبدأ المواطنة.
المواطنة التي تضع مصلحة لبنان فوق كل اعتبار، وتزيل الحواجز الطائفية التي عانت منها البلاد لعقود طويلة. إذا كانت الدولة اللبنانية قد أظهرت اهتمامًا في بعض الأحيان بمعالجة قضايا التهميش، فإن ذلك لا يجب أن يظل قيد الانتظار أو ضمن تصريحات إعلامية، بل يجب أن يتحول إلى إصلاحات حقيقية في مؤسسات الدولة.
عكار: العمق السني المغيب عن التمثيل الحقيقي
تعد عكار واحدة من أهم المناطق السنية في لبنان، لكنها لا تزال تفتقر إلى تمثيل سياسي وديني مناسب، وهو أمر يُعد أحد أوجه التهميش الممنهج.
على الرغم من أن هذه المنطقة تعد من أكثر المناطق التي تحتوي على أبناء الطائفة السنية في لبنان، إلا أنها لا تزال تفتقر إلى التمثيل اللائق في العديد من المؤسسات، بما في ذلك المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى
المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى، الذي يعد السلطة السنية الشرعية العليا في لبنان، يتألف من 24 عضوًا يتم انتخابهم من قبل الطائفة السنية، ولكن التوزيع الحالي للمقاعد في المجلس لا يعكس الحجم السكاني والسياسي لعكار بشكل عادل. إذ يتم تمثيل عكار بعضو واحد فقط في المجلس، في حين أن المناطق الأخرى لديها تمثيل أكبر بكثير مقارنة بالحجم السكاني لها. إن هذا التوزيع غير العادل يطرح تساؤلات مشروعة حول العدالة في تمثيل المناطق السنية داخل هذه المؤسسة.
هذه القضية لا تتعلق فقط بتوزيع المناصب، بل تتعلق بمسألة العدالة الاجتماعية وإصلاح النظام السياسي اللبناني* برمته. إن التهميش المستمر لعكار، وعدم منحها التمثيل الذي تستحقه في المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى، هو جزء من الممارسات السياسية القديمة التي تستخدم المحاصصة الطائفية كأساس للتوظيف والترقية في المناصب، وهو ما ساهم في إضعاف المؤسسات اللبنانية وعزز الانقسامات الداخلية.
المواطنة أولًا: إصلاح التمثيل السياسي والديني
من هنا، لا بد من تسليط الضوء على أهمية إعادة هيكلة التمثيل السياسي والديني في لبنان بشكل يعكس التعددية الحقيقيةلمكوناته، ويعزز من مبدأ المواطنة* كأساس لأي إصلاح مستقبلي. لا بد من إلغاء المحاصصة الطائفية والمذهبية التي ظلت تهيمن على كل مفاصل الحياة السياسية والإدارية في لبنان. المحاصصة التي سمحت لبعض الأفراد والمناطق بالاستفادة على حساب آخرين، في حين أن اللبنانيين جميعًا، بغض النظر عن دينهم أو منطقته، يجب أن يحصلوا على فرص متساوية من التوظيف والمشاركة السياسية.
المواطنة التي أُريد لها أن تظل حبرًا على ورق يجب أن تصبح واقعًا ملموسًا، حيث يتساوى المواطنون في حقوقهم وواجباتهم بغض النظر عن خلفياتهم الطائفية أو المذهبية. إذا أردنا أن نحقق العدالة والمساواة في لبنان، يجب أن يكون مبدأ المواطنة هو العامل الأسمى في التوظيف والإدارة، بدلاً من جعل الطائفة أو المنطقة هي المعيار الأول.
ضرورة تعديل التمثيل السني في المجلس الإسلامي الشرعي
إن التمثيل غير العادل لعكار في المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى لا ينبغي أن يكون مجرد نقطة خلاف، بل هو مؤشر خطير على عدم وجود تمثيل عادل للمناطق السنية في لبنان. ومن هنا، يصبح السؤال الملح: هل سيتخذ مفتي الجمهورية قرارًا حاسمًا في تصحيح هذا التمثيل؟
هل سيقوم بإعادة هيكلة المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى بحيث ينعكس التوزيع السكاني لعكار بشكل أكثر دقة؟ أم أن هذا التوزيع سيظل كما هو، بناءً على المصالح السياسية الخاصة والمزاجات الطائفية؟
إن التمثيل السياسي والديني في لبنان لا يجب أن يُستغل لتمرير سياسات ضيقة أو لتكريس المحاصصة، بل يجب أن يكون موجهًا نحو خدمة المصلحة العامة. وكي يتحقق ذلك، يجب أن تكون الأولوية لتوظيف الكفاءات، وأن يكون التوظيف في الدولة على أساس الكفاءة والقدرة، لا على أساس الانتماء الطائفي أو الجغرافي.
الوقت قد حان للانطلاق نحو دولة المواطنة
لبنان بحاجة إلى إصلاح حقيقي في بنيته السياسية والدينية. ولكي نبني لبنان القوي والمزدهر، يجب أن نتخلص من الطائفية السياسية التي زادت من التهميش في العديد من المناطق، وفي نفس الوقت يجب أن نعمل على تعزيز المؤسسات الديمقراطية وتطوير إدارة الدولة لتكون أكثر فاعلية وشفافية.
إن تصحيح التمثيل السياسي والديني في لبنان لا يقتصر فقط على إعادة توزيع المناصب، بل هو أولوية لبناء دولة المواطنة، حيث لا فرق بين اللبنانيين إلا بالكفاءة والإخلاص للوطن. في النهاية، لا بد من بناء دولة قانون ومؤسسات، حيث يُحترم المواطن ويُعامل بكرامة، ويُتاح له فرصة تحقيق إمكانياته بعيدًا عن التمييز الطائفي أو الجغرافي.