الضاحية وضغط الاحتمالات المفتوحة : لو كُنا نعلم لما عدنا

بقلم بتول يزبك

“لو كُنّا نعلم أنّ مسؤولًا في الحزب يسكُن في هذا المبنى، لما عدنا إليه”، تقول فاطمة وهي تنفض عن سيّارتها المعوّجة ما تبقّى من زجاجها المُهشّم بمكنسةٍ صغيرة. وعلى بُعد أمتارٍ قليلة، يقف جارُها قاسم في المبنى المُستهدَف ليسألها: “هل قالوا لكِ (حزب الله) ماذا سنفعل وإلى أين نذهب؟” فتُحدِّجه وتبتسم ابتسامةً صفراويّة علامةً على النفي، فيردّ عليها بوجلٍ: “المهم، اذهبي إلى الغبيري واستبدلي زجاج السيّارة، لا تنتظري التعويض”.

أمام المبنى المُستهدَف في “حيّ ماضي” في ضاحية بيروت الجنوبيّة بثلاثة صواريخ، يقف بعض سكّان المبنى، أو بعض المتفرّجين الفضوليين. لا يُمكن للعين المُجرّدة فعلًا تمييز المنكوب من غيره من سكّان الضاحية، سواء كانوا من السابلة أم من المتفرّجين والمتطوّعين. ثمّ ما الذي يفرّق حقًّا هؤلاء الذين وحّدت أشكالَهم النكبة وكأنّهم مُنذَرون لها، عن بعضهم؟ لا شيء. الحزن لصيقٌ سكّان هذه المنطقة الزئبقيّة، والبؤسُ العنيدُ مُقيمٌ هنا في الملامح كلّها.. وكلّ مرّةٍ يحدث فيها الاعتداء نفسه، الذي لا يتورّع فيه المعتدي عن صبّ جام حقده على غير المتورّطين، تُعادُ الرواياتُ المفزعة ذاتُها: الخروج من تحت طبقات الإسمنت، الفزع عينُه، والأحوال المُريعة ذاتُها، تُروى مجدّدًا على نحوٍ تكراريّ.

الضاحية بعد ليلة الاستهداف

بعد ساعاتٍ من الضربة المروِّعة، ابتلعت الضاحية سكّانها، مرتعدةً خوفًا وتوجّسًا من الحدث الجَلَل الذي لم يكن متوقّعًا. وأدركت فجأةً أنّ السّيِّئ هو ما شهدته الآن، استعادةٌ لمشاهد كابوسيّة من الحرب الأخيرة، المذبحة الإسرائيليّة المقصودة والمُخطَّط لها علانيةً، بكلّ ما تحمله من تداعياتٍ على واقع الميدان. أمّا الأسوأ والأكثر إيلامًا، فلم يأتِ بعد، ولم ينقضِ؛ بل هو هناك يتربّص بهم في الزمن الخطيّ الملتوي، في مستقبلٍ قريب جدًّا. وهذا ما أدركته الضاحية وسكّانها: أدركت الرعب المُحدِق بها.

بعد ساعاتٍ قليلة على استهداف الضاحية الجنوبيّة ــ ومن دون أيّ إنذار وللمرّة الأولى منذ إعلان وقف إطلاق النار ــ جالت “المدن” في محيط المبنى المستهدَف، المُلاصق أساسًا لمبنى جرى تسويتُه بالأرض في الحرب الأخيرة. والحال أنّ أيّ محاولةٍ للوصول إلى محيط المبنى المستهدَف، من دون معرفةٍ مسبقة بموقعه، ليست بالأمر السهل. فعلى امتداد جسر الصفير المُطلّ على كيلومتراتٍ من المباني المتراصّة وبلدات الضاحية الجنوبيّة وشوارعها، هناك عشرات المباني المُستهدَفة والمخروقة، وأخرى جرى تسويتُها بالأرض. وحدها جموعُ الصحافيّين والكاميراتُ المُستنفرَة تُشير إلى أنّ ضربةً جهنميّة مرّت من هنا قبل ساعات.

أمّا المبنى الذي جرى استهدافه فكان يتألّف من ثمانية طوابق، وقد دُمِّرت طبقاته العلوية تدميرًا شبه كامل، بما فيها الطابق السادس، وانتهت صباح اليوم عمليّات رفع الأنقاض بحثًا عن أيّ مفقودين. وعلمت “المدن” من مصادر ميدانيّة أنّ جميع الضحايا عُثِر عليهم بعد مدّةٍ وجيزة من الغارة، ولا صحّة لأيّ أخبارٍ تتعلّق بوجود أشلاء. وقُتِل في هذا الاستهداف أشخاصٌ من عدّة عائلات، وتحديدًا من عائلتَي بدير وكركي، وكان من بينهم مسؤولٌ في حزب الله (حسن بدير) وثلاثةٌ من أفراد عائلته، إضافةً إلى أمٍّ وابنها قضيا نتيجة الغارة. وفي الطوابق السفلية، تمكّن غالبيةُ الناس من الفرار بعد انتهاء الاستهداف بدقائق.

أمّا المبنى فلم يَعُد صالحًا للسكن حاليًّا بسبب الأضرار الجسيمة الّتي لحِقته، ويجري العمل على إصلاحه، فيما تضرّرت المباني المحيطة، الّتي كان سكّانُها قد أنهوا توًّا عمليّات الترميم جرّاء الحرب، كما تضرّرت السيارات المجاورة للمبنى بدرجةٍ كبيرة.

وعلى الرّغم من عودة الحياة تدريجيًّا إلى الشوارع المحيطة، فإنّ المنطقة كلّها عانت دمارًا كبيرًا، وسط انهماك الأهالي في عمليّات الترميم والكشف عن الأضرار. إلّا أنّ معظم سكّان الحيّ لم ينزحوا، بل بقوا لترتيب منازلهم بعد الليلة الدمويّة. حيث التقت “المدن” عددًا منهم، وأكدّوا أنّهم لن ينزحوا لأنّهم ببساطة غير قادرين على ذلك.

هكذا، تبقى الضاحية الجنوبيّة تحت ثقل الترقّب المُمِضّ وضغط الاحتمالات المفتوحة. بين كلّ ضربةٍ وأخرى، يستعيد الناس ذكرياتٍ مريرة لا تلبث أن تُجدِّد جِراحهم. وعلى الرّغم من عودة الحياة إلى طبيعتها الظاهريّة، يظلّ الشعور بالخوف والتوجّس حاضرًا في الأذهان وفي تفاصيل الحياة اليوميّة. إنّه واقعٌ يُثقِل كاهل سكّان المنطقة، ويضَعُهم أمام تحدّياتٍ تتخطّى مجرّد إعادة الإعمار أو البحث عن تعويضٍ ماديّ. وأمام هذه المرحلة المعقّدة، تتشابك الأسئلة حول مستقبل الحزب ولبنان عمومًا، وتبقى الإجابات المُمكنة في دائرة التنبّؤ والانتظار، في ظلّ صراعٍ قد يعيد إنتاج نفسه في كلّ مرّة، محمّلًا بمزيدٍ من الآلام والأعباء على كاهل من يدفعون الثمن الأكبر: المدنيّون الذين يدورون في فلك المأساة ذاتها، بانتظارخلاصٍ مؤجَّل.

اخترنا لك