الدور التركي في لبنان بعد سقوط النظام السوري : بين القوة الناعمة والطموح الاستراتيجي

بقلم د. كولشان يوسف صغلام – أكاديمية وباحثة

مع نهاية عام 2024، شهدت منطقة الشرق الأوسط سلسلة من التحولات الجيوسياسية العميقة، كان أبرزها انهيار النظام السوري بعد عقود من الحكم، ما أدّى إلى تغيير جذري في موازين القوى الإقليمية، وكان لبنان بطبيعة الحال أحد أبرز المتأثرين بهذه الديناميات الجديدة. جاءت هذه المرحلة الانتقالية اللبنانية في ظل تحول وسياق داخلي، بدأ بانتخاب العماد جوزيف عون رئيسًا للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة برئاسة القاضي والدبلوماسي نواف سلام، وذلك عقب عدوان إسرائيلي دمّر البنية التحتية وزاد من الأعباء الاقتصادية والاجتماعية على البلاد، في حين تراجعت قدرات حزب الله القتالية بسبب الانخراط في الجبهات الإقليمية وخسائره المتتالية.

هل تسعى تركيا إلى التوازن أم تقاسم النفوذ؟

في هذا السياق المتغيّر، برزت تركيا كفاعل إقليمي طموح يسعى إلى توسيع حضوره في المشرق العربي، مدفوعة بجملة من العوامل، من أبرزها الانسحاب النسبي للقوى الكبرى، لا سيما إيران وروسيا، وتقلص النفوذين الروسي والإيراني نتيجة الضغوط الدولية والانهيار السوري، مقابل عودة دونالد ترامب إلى الرئاسة الأمريكية في واشنطن والتحول في سياسته، وما يرافق ذلك من تصريحات إيجابية تجاه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، حيث وصفه ترامب أكثر من مرة بأنه “قائد فعّال وحازم”. هذا التقارب التركي الأمريكي المحتمل يفتح الباب أمام تقاطعات استراتيجية بين أنقرة وواشنطن، وقد يُترجم في ملفات عديدة، منها ملف الطاقة شرق المتوسط، والوضع في شمال سوريا ولبنان.

من الجغرافيا إلى النفوذ: هل أصبحت سوريا ممراً إلى لبنان؟

تاريخيًا، دعمت أنقرة المعارضة السورية في إطار صراعها مع نظام الأسد، إلا أن التطورات المتسارعة في الداخل السوري وسقوط النظام منحت تركيا موقعًا استراتيجيًا ميدانيًا مباشرًا، خصوصًا في شمال سوريا. وبهذا باتت تركيا تمتلك أوراق تأثير فعلية ليس فقط على الداخل السوري بل على لبنان أيضًا، نظرًا لارتباط البلدين جغرافيًا واجتماعيًا وسياسيًا. ومن هذا المنطلق، فإن من يسيطر على القرار في دمشق، أو يقترب من مفاتيحه الأمنية والسياسية، يقترب تلقائيًا من التأثير على بيروت. هذه الحقيقة تعيد طرح إشكالية السيادة الحدودية، لا سيما في مناطق البقاع والشمال، حيث تتداخل العلاقات العائلية والمصالح الاقتصادية والامتدادات الحزبية والمذهبية.

ما دوافع أنقرة لاعتماد القوة الناعمة بدل التدخل المباشر؟

على الرغم من القدرات العسكرية الوازنة لتركيا، وكونها ثاني أكبر قوة في حلف الناتو، إلا أن أنقرة اختارت في تعاطيها مع الساحة اللبنانية الاعتماد على أدوات القوة الناعمة، في تعبير واضح عن استراتيجية مرنة تراعي خصوصية المجتمع اللبناني وتعدد مكوناته. وقد تجلّت هذه الاستراتيجية في مشاريع إنسانية وتنموية وتعليمية وصحية متعددة، تشرف عليها مؤسسات تركية رسمية مثل وكالة “تيكا” و”الهلال الأحمر التركي” و”وقف المعارف”، فضلًا عن مؤسسة “شؤون الأتراك في الخارج والمجتمعات ذات القربى”، وغيرها من الجهات الحكومية وغير الحكومية التي تنفّذ مشاريع في مناطق تركمانية أو فقيرة أو منكوبة.

ما هو إرث وحدود الحضور الاجتماعي التركي في لبنان؟

لا تنحصر علاقات تركيا بلبنان في البعد السياسي أو الاقتصادي، بل تمتد إلى الأبعاد الاجتماعية والثقافية، حيث يقطن في لبنان ما يزيد عن 50 ألف مواطن من أصول تركية، يعيش معظمهم في بيروت، إلى جانب نحو 19 ألف تركماني في الشمال والبقاع، وحوالي 8000 من الكريتيين الأتراك الذين استقروا في طرابلس وضواحيها منذ عقود. وتمتاز هذه الجماعات باندماجها التام في النسيج اللبناني، وبقدرتها على لعب دور “الجسر الناعم” في العلاقات الثنائية بين أنقرة وبيروت. كما أن الإرث العثماني الذي تركته السلطنة العثمانية في لبنان، سواء على مستوى المباني أو البنية الثقافية، يُعدّ رصيدًا معنويًا تُوظّفه أنقرة ضمن سياستها الخارجية الثقافية.

هل تُعدّ تركيا بديلاً للسعودية في الساحة السنية؟

تشهد الساحة السنية اللبنانية تنافسًا مكتومًا بين الرياض وأنقرة منذ سنوات، وهو ما بدا واضحًا في تباين مواقف الأطراف السياسية السنية إزاء الأزمتين السورية واليمنية. فبينما تمتلك المملكة العربية السعودية إمكانات مالية هائلة وهي داعمة للشعب اللبناني بشكل دائم، فإن قدرتها على التأثير الجيوسياسي المباشر كانت محدودة بالمقارنة مع الحضور التركي العسكري والميداني. غير أن المستجد في هذا التنافس هو التقارب التركي السعودي الأخير والذي بلغ ذروته خلال الفترة الأخيرة، ويظهر ذلك أيضًا خلال زيارة الرئيس ترامب إلى الرياض واتفاقه مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان والرئيس أردوغان على توحيد الجهود والطلب من الريس ترامب رفع العقوبات على سوريا و دعم استقرار لبنان، ما قد يُمهّد لتنسيق ثلاثي جديد يتجاوز الخلافات السابقة.

ما موقع لبنان في استراتيجية أنقرة؟

في ظل هذه التغيرات، تطرح تساؤلات منطقية: هل سيتحول الحضور التركي في لبنان إلى مشروع نفوذ سياسي صريح، أم سيظل محصورًا ضمن أدوات القوة الناعمة؟ وهل تملك الدولة اللبنانية القدرة على الاستفادة من هذا الحضور دون الانزلاق في محاور متصارعة أو الاصطفاف إقليمي حاد؟ التخوّف اللبناني يتعزز من واقع ما يجري في سوريا، لاسيما بعد أن تسلمت هيئة تحرير الشام، بقيادة أحمد الشرع، الحكم في سوريا، ما قد يعيد إنتاج نفوذها عبر جماعات لبنانية شمالية مرتبطة بها فكريًا وعقائديًا أو لوجستيًا. في ظل التموضع التركي في العمق السوري، وتكامل شبكة العلاقات مع السنة اللبنانيين، لا يمكن إغفال احتمال أن يتحول هذا الحضور إلى رافعة سياسية إقليمية في حال اختارت أنقرة الانخراط بشكل مباشر في اللعبة اللبنانية.

ما السيناريوهات المستقبلية للعلاقات التركية اللبنانية؟

يمكن تصور سيناريوهان رئيسيين لمسار العلاقات التركية اللبنانية في المرحلة المقبلة.

السيناريو الأول، وهو الأكثر ترجيحًا، يتمثل في استمرار أنقرة في اعتماد سياسة القوة الناعمة، وتعزيز شراكاتها مع بيروت عبر مشاريع إنمائية ومؤسساتية وتربوية، إلى جانب إمكانية الاستفادة من تجربة تركيا في جهود إعادة الإعمار و في تطوير بعض القطاعات الحيوية في لبنان، والمشاركة ضمن القوات الدولية في الجنوب ضمن عمليات حفظ السلام.

أما السيناريو الثاني، وهو الأقل احتمالًا، فيتضمن محاولة أنقرة توسيع نفوذها السياسي المباشر داخل لبنان، ما قد يؤدي إلى توترات داخلية وإقليمية، ويضع لبنان أمام خطر الاصطفاف في محاور جديدة، لا سيما في حال تدهور العلاقة مجددًا بين طهران وأنقرة أو بين واشنطن وأنقرة.

كيف يمكن ضمان استقرار لبنان في ظل اشتباك الإقليم؟

إن ضمان استقرار لبنان في المرحلة المقبلة يتطلب معالجة عميقة لثلاثة شروط أساسية على المستوى الإقليمي :

أولًا، تحقيق اتفاق شامل بين الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، بما يخفف من منسوب التوتر ويعيد ضبط التوازنات على الساحة اللبنانية.

ثانيًا، إنهاء عهد حكومة اليمين المتطرف بقيادة بنيامين نتنياهو في إسرائيل، لما تشكّله من تهديد دائم على أمن لبنان والمنطقة بأسرها.

وثالثًا، تعزيز سيادة الدول من خلال تطبيق القرار 1701 و بسط السلطة الشرعية على كافة الأراضي اللبنانية، ما من شأنه إعادة الاعتبار للقانون الدولي وخلق بيئة أكثر استقرارًا في لبنان و أيضاً في المشرق العربي.

الخلاصة، يبقى التحدي الأساسي أمام الدولة اللبنانية هو الحفاظ على استقلالية قرارها الوطني، والسعي إلى تحقيق توازن في علاقاتها الدولية والإقليمية، بحيث تستفيد من الفرص التي يوفرها الحضور التركي، دون أن تتحول إلى ساحة نفوذ لأي طرف. إن التفاعل الذكي مع المعادلات الجديدة في المنطقة هو مفتاح بقاء لبنان كيانًا موحدًا وفاعلًا في محيطه، وليس مجرد ساحة لتقاطع المصالح الإقليمية والدولية.

اخترنا لك