نسمة صنين : زهرة على حافة الهاوية ورسالة من الطبيعة إلى حضارتنا المترنّحة

بقلم كوثر شيا

في قلب جبل صنين، حيث تمتزج الصلابة بالصمت، وتهب الرياح حاملة رسائل من قرون مضت، وُلدت زهرة لم يعرفها أحد من قبل. زهرة تنتمي لعائلة Onosma، لكنها ليست كباقي أخواتها. إنها Onosma sanninensis، أو كما أحبّ مكتشفها رامي معلوف أن يسميها: “نسمة صنين”. لا توجد في أي مكان آخر على وجه الأرض، لا في حديقة مخفية في جبال الألب، ولا في وادٍ منسي في الأناضول. هي فقط هنا، في مساحة لا تتعدى 0.16 كيلومتراً مربعاً، عند سفوح صنين.

لكن ما الذي يعنيه أن تظهر “نسمة صنين” الآن، وسط ما نشهده من انهيارات بيئية واجتماعية وروحية؟ وما الرابط بين هذه الزهرة وبين مفاهيم الزراعة المستدامة، أو ما يُعرف بـ “التصميم الدائم” (Permaculture)، التي تسعى لإعادة توحيد الإنسان مع الأرض؟

الزهرة كنظام حياة: ما الذي تخبرنا به “نسمة صنين”؟

“نسمة صنين” ليست مجرد اكتشاف نباتي، بل هي بيان بيئيّ حيّ. في زمن اجتثاث الغابات وتشييد الإسمنت فوق كل حيّ، تظهر هذه الزهرة لتذكّرنا بأن الحياة ما زالت ممكنة، لكنها هشة بشكل لا يُحتمل. أقل من 250 نبتة تعيش على ارتفاع 1750 إلى 2100 متر، في منطقة تضربها مشاريع الكسارات والتشجير العشوائي، وتهددها أنشطة سياحية بلا ضوابط.

وجود هذه الزهرة هو بمثابة صوت خافت من الطبيعة يقول: “أنا ما زلت هنا، لكن ليس لوقت طويل”. إنها لا تمتلك رفاهية التنقل أو المقاومة. هي هناك، ثابتة، راسخة، كأنها تمتحن صبر الأرض على جراحها.

البرماكلتشر و”نسمة صنين”: التوازن الذي فقدناه

الـ Permaculture لا تعني فقط الزراعة العضوية أو الاكتفاء الذاتي، بل هي نمط تفكير وحياة يحترم الأنظمة البيئية، يبني بتواضع، يزرع برحمة، ويتشارك بخير. حين نسمع أن “نسمة صنين” تنتمي إلى فصيلة نباتية تحتوي على مركب “الشيكونين”، المعروف بقدرته على مقاومة الخلايا السرطانية، ندرك أن الطبيعة ما زالت تقدم لنا الشفاء — شرط أن نكفّ عن تسليعها.

في البرماكلتشر، لا نزرع من أجل السوق فقط، بل من أجل استعادة التناغم مع التربة والماء والهواء. وهذا ما تفتقده اليوم المشاريع التي ترتفع عشوائياً في أعالي صنين. فالتحريج الصناعي، وإن بدا بيئياً، قد يكون مدمّراً إذا لم يُراعِ التنوّع البيولوجي المحلي. و”نسمة صنين” مثال حيّ على أهمية النباتات دقيقة التوطن التي لا تعيش إلا في ظروف خاصة جداً.

بيئات متعدّدة، دروس موحّدة

في كل مكان من العالم، تظهر “نَسَمات” شبيهة. في جبال الأنديز، تنمو أعشاب لا توجد في أي مكان آخر، مهددة من المناجم. في أستراليا، تختفي نباتات طبية بسبب تغيّر المناخ. في إفريقيا، تُستنزف الغابات المطيرة بحثاً عن أخشاب ونفط. وفي كل هذه البيئات، تُطرح الأسئلة ذاتها:
• هل نعرف حقاً ما نخسره حين نفقد نوعاً نباتياً؟
• هل يمكننا بناء مجتمعات تتعايش مع الطبيعة، لا تهيمن عليها؟

الجواب موجود في قلب فلسفة البرماكلتشر: “العمل مع الطبيعة، لا ضدّها”. وهذا ما لم نعد نمارسه في لبنان، حيث البناء أقوى من الجذر، والردم أسرع من الشفاء.

“نسمة صنين” ليست زهرة… إنها إنذار

يقول رامي معلوف: “هذه ليست مجرد زهرة جديدة، إنها علامة حياة أخيرة من جبل يحتضر”. وكم في هذه العبارة من صدق مؤلم. فبينما نسعى لتوثيقها وحمايتها، يجري في المقابل استنزاف الجبل نفسه، حجراً وجذراً ونسمة.

هذا الاكتشاف جاء بالتزامن مع اليوم الدولي للتنوع البيولوجي، وكأنه استجابة صامتة من الأرض نفسها. الأرض التي تعبّر عبر أضعف كائناتها، لا عبر صراخ البشر.

نحو تصميم دائم… نحو أمل مستدام

ربما لم يعد أمامنا الكثير من الوقت. لكن “نسمة صنين” تمنحنا فرصة نادرة لإعادة التفكير في علاقتنا مع الطبيعة، ومع الجبال التي تنبض بالصمت. علينا أن نعيد الاعتراف بالقيمة الذاتية لكل كائن حيّ، لا بناءً على ما يمكن أن يستخرج منه، بل على مجرد كونه موجوداً.

من هنا تبدأ البرماكلتشر: بالإنصات.
والأرض، حين نُنصت جيداً، تهمس لنا… بنسمة.

اخترنا لك