بقلم طوني عطية
يوماً بعد يوم، يُكشَف المستور عن أسرار حكم الأسد، ويتعرّى معه «محور المقاومة» وأدواته وسياساته وأدبياته. لسنين طويلة، غزا مصطلح «وحدة المسار والمصير» العلاقات اللبنانية – السورية – الإيرانية، قبل أن يُستبدَل بالوجه الآخر للعملة المزيّفة ذاتها، أي «وحدة الساحات». في الحالتين، كان لبنان هو الضحية وحلبة الصراع بين الثيران الإقليمية. لسوريا الأسد و»الممانعة» أوسمة العفّة والطهارة والشرف، وللمعارضين اللبنانيين المنادين بالحياد والسيادة والمصلحة الوطنية، سهام العمالة والخيانة وكواتم الصوت ورصاص الاغتيال وعبوات التفجير.
آخر تلك الفضائح، أماط اللثام عنها الدبلوماسي والمبعوث الأميركي السابق إلى دمشق وآخر الوسطاء بين سوريا الأسد وإسرائيل، السفير فريديريك هوف. إذ كشف في حديث لـ»المجلّة» اللندنية، تفاصيل الاجتماعات المباشرة التي جمعته ببشار الأسد، واتفاق السلام المكتوب الذي كان على الطاولة في شباط 2011، بعد جولات تفاوضية سريّة بين دمشق وتل أبيب، حيث «اقتربنا جدّاً من الاتفاق قبل أن ينهار كل شيء مع اندلاع حرب استمرت أربعة عشر عاماً».
ما أفصح عنه السفير هوف ليس جديداً في تاريخ العلاقات السورية – الإسرائيلية، فحلقات السلام المفقودة حتى الآن، تعود إلى عهود الأسد الأب، لكن ما أثار اهتمام وحفيظة الوسيط الأميركي هو ما سمعه من بشار الأسد خلال اجتماع دام 50 دقيقة، وثقة الأخير بأن إيران و»حزب الله» سيوافقان على أي اتفاق سلام. يقول هوف: «قال لي (الأسد) حرفياً إن «حزب الله» سيتحول إلى حزب سياسي لبناني عادي، وأنه أبلغ رئيس جمهورية لبنان حينها ببدء الاستعداد للتفاوض مع إسرائيل أيضاً، لأنه بمجرد التوصل إلى اتفاق سلام مع سوريا، لبنان سيكون تالياً».
أضاف هوف: «خلال الحديث، طرحت عليه سؤالاً: إذا تم التوصل إلى معاهدة سلام، وبدأ الانسحاب الإسرائيلي من الجولان، فماذا عن مزارع شبعا؟ هل علينا إشراك الجيش اللبناني؟». حينها انتفض الأسد: «سيد هوف، لا. لا علاقة للبنان. هذه الأرض سورية. وإذا استعدناها، أنا منفتح على نقاش السيادة مع لبنان لاحقاً، لكن لتكن الأمور واضحة: الأرض سورية… هذا ما قاله لي الأسد في حينه. وربما اليوم تجد الحكومة الجديدة في سوريا من مصلحتها إصدار بيان مماثل، مما يساعد لبنان على إنهاء هذه الحجة الزائفة للمقاومة». (انتهى الاقتباس)
ما يثير الغثيان والعجب، تلك الازدواجية القاتلة في التعاطي مع لبنان من قبل «الممانعة». في حين كان الأسد وبمعرفة و»فتحة عين» إيرانية يُخيّط «ثوب السلام» مع إسرائيل واقتناعه بأن «حزب الله» سيتحوّل إلى حزب سياسي، كان حلفاؤه وأتباعه، يطاردون من يجرؤ على المطالبة بتسليم السلاح أو بسحب لبنان من دوامة الصراعات. يلاحقون أي لبناني أو رياضي التقى صدفة بشخص يحمل الجنسية الإسرائيلية في أوروبا أو الولايات المتحدة، أو منع عرض أفلام سينمائية غربية يشارك فيها ممثلون لديهم ارتباطات بالدولة العبرية.
واستناداً إلى «ويكيليكس» السيّد هوف، تظهر مسألة مهمّة وهي أن «حزب الله» الذي كان على بيّنة من مفاوضات السلام تلك، لم يتوانَ عن زجّ شبابه وبيئته ولبنان في الأتون السوري دفاعاً عن حكم بشار الأسد، الذي لو لم تندلع «الحرب السورية» آنذاك، لكان الأسد اليوم سائحاً في تل أبيب، أو البحر الميت أو طبريا، بدل نفيه إلى ثلوج موسكو وصقيعها.
والنقطة اللافتة أيضاً، هي مسألة مزارع شبعا السورية (بحسب تأكيد الأسد)، الشمّاعة المخترعة من أجل المحافظة على منظومة «الحزب» العسكرية والأمنية وتنفيذ هدفه الحقيقي أي السيطرة على لبنان وقلب موازين الحكم خدمة لمشروعه وأيديولوجيته. فـ»الممانعة» التي خندقت لبنان والجنوب وفخخته بمئات الأنفاق ومستودعات الأسلحة، التي ارتدّت عليها في حرب الإسناد، لم تُمانع سراديب اللقاءات السريّة بين دمشق وتل أبيب. في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أنه عقب الخروج الإسرائيلي من جنوب لبنان عام 2000، كان «حزب الله» والدولة اللبنانية آنذاك في حيرة من أمرهما ومن بقاء حجّة السلاح غير الشرعي بُعَيْد الانسحاب الأحادي، إلى أن خرج أرنب «تحرير جديد» من جعبة أحد الأجهزة الأمنية اللبنانية الذي دلّ «الحزب» على وجود مسمار جحا يدعى «مزارع شبعا»، وهذا ما كشفه أيضاً هوف.
اليوم، مع سقوط أقنعة «الممانعة» وزَيْف مقاومتها وتمسّكها بسلاحها، وتبدّل أحوال سوريا رأساً على عقب، هل سيتمكّن لبنان من تحديد مساره ومصيره ومصلحته هو، بعيداً من «المحور» الذي علّقه على خشبة «المقاومة» نهاراً، واقتسم مستقبله في عُلب مفاوضات السلام ليلاً، وجعله «ألعوبة» و»أضحوكة» دمّرت اقتصاده وسيادته وعلاقاته الدولية والعربية؟