بقلم د. ميشال الشماعي
–
@DrMichelCHAMMAI
تؤكّد الأحداث المتتابعة من جديد بأنّ النوايا التي تضمرها منظّمة “الحزب” تجاه لبنان لم تكن يومًا سليمة. وإن بدت في الشكل، على الأقلّ، وفي مكان ما، متماهية مع القيم والأعراف الوطنيّة، لكن الاشكاليّة تجلّت دومًا في تنفيذ هذه النوايا وفي كيفيّة استثمارها سياسيًّا، من خلال القدرات العسكريّة التي سمح العدو الاسرائيلي بعقله الاستخباري بتكوينها. فضلًا عن تواطؤ السلطة اللبنانيّة التي بدأت منذ مرحلة ما بعد الطائف وانتهت مع انتخاب فخامة الرئيس العماد جوزيف عون.
وتحاول هذه المنظّمة من خلال الفكر الذي يقوم على مبدأ التقيّة بالالتفاف على العهد من بوّابة نسج علاقات مع فخامة الرّئيس من جهة، ومن جهة ثانية من خلال ضرب صورة رئيس الحكومة، ودقّ الأسافين بينه وبين فخامة الرّئيس. وبدت لافتة في هذا السياق زيارة محمد رعد بعبدا على رأس وفد من نواب الكتلة ضمّ النواب أمين شري، حسن فضل الله، علي عمار وحسين الحاج حسن، بداعي “التبريك” بعيد ما دأبوا هم على تسميته وتكريسه في الأعراف المؤسساتيّة تحت مسمّى عيد المقاومة والتحرير.
لا وجود لما يسمّى عيد لمقاومة أو لتحرير بل هذه ذكرى وطنيّة نفتخر فيها لأنّها انتجت انسحابًا لاحتلال إسرائيلي دام أكثر من ربع قرن؛ كذلك مثلها في 26 نيسان ذكرى انسحاب جيش الاحتلال السوري، ومثلها 30 آب ذكرى خروج ياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، ومثلها 31 كانون الأوّل ذكرى الانسحاب الكامل للقوات الفرنسية من لبنان. فالذكرى تبقى ذكرى والعيد يبقى عيدًا، مهما حاول بعضهم اللعب على الفلسفة المصطلحيّة.
فهذه الزيارة ساقطة ” أبريوريًّا ” لانتفاء سببها. ومن المسائل التي تثير للسخرية في كلمة محمّد رعد هو حرصه على الحفاظ على السيادة، وهو الذي أصابها مقتلًا بتشارك حزبه مع الدّولة فيها. ما أدّى إلى انهيارها. أمّا مسألة إنهاء الاحتلال الاسرائيلي التي شنّف آذاننا فيها طوال هذه العقود الأربعة فرأينا كلّنا مفاعيل نظريّة “الغباء الاستراتيجي” إلى أين أوصلت الوطن بشكل عام، والبيئة التي خدعت بوهم المقاومة.
وها هو اليوم يتباكى على الخروقات التي وافق عليها في اتّفاق 27 تشرين الثاني تحت مسميات الدّفاع عن النّفس وبالتحديد في البند الرابع من هذا الاتّفاق الذي رعاه أخوه الأكبر دولة الرئيس نبيه برّي. وبعد التدمير الذي تسبّب به يعود ويربط كلّ ما يطلب منه بإعادة إعمار ما دمّره العدوان، متباهيًا بتحريك الاستحقاقات البلدية والاختياريّة وهو الذي قام بتجميد مفاعيلها بفرض التوافق الاكراهي في المجالس البلدية للقرى.
وحرّر رعد منظّمته من الالتزامات مع فخامة الرّئيس بقوله صراحة ومن دون أيّ مواربة: ” مساحة التفاهم الممكنة بيننا وبين فخامة الرئيس واسعة.. نحن لا نجد أنّنا ملزمون لا بتوقيت ولا بأمكنة ولا بأدوات ولا بأساليب من أجل أن نملأ هذه المساحة.” وهذا ما يراد منه حقّ لكنّه باطل. فخامته حريص على التّفاهم مع اللبنانيين كلّهم لكن ليس على حساب المصلحة الوطنيّة. ما لا يريد إدراكه رعد وفريقه السياسي أنّ المقاربات التي كان يجريها قبل 8 تشرين الاول سقطت. واليوم دخلنا في العهد الجديد فعليًّا. ومساحة الانقلاب على الدّولة والدّستور بالتملّق والفتاوى المصطلحيّة لم تعد متوفّرة. عليه أن يجري عمليّة تيويم سياسي political update، ليستطيع مواكبة قطار التغيير.
ومهما حاول إخفاء الحقائق، فالتّاريخ سيشهد دومًا للحقّ والحقيقة. وما إصراره على أنّ “التحرير انجزته المقاومة” إلّا إخفاء لثنايا الاتّفاق بين الرئيس السوري حافظ الاسد والاسرائيلي الذي أنتج انسحابًا إسرائيليًّا بمباركة سوريّة وبتكليف سوري لمنظمة الحزب بالحفاظ على الأمن والاستقرار. والذي نشرت صحيفة شبيجل الألمانية يوم 13 / 6 /2004 تفاصيله وهو الذي جرى بين الحزب واسرائيل والذي مهد للانسحاب الاسرائيلي من جنوب لبنان، وبحسب الصحيفة فان الاتفاق الذي كان يعرف بـ “قواعد اللعبة” تم بين لجنة أمنية من الحزب والجيش الاسرائيلي وكان الهدف منه انسحاب الجيش الاسرائيلي من جنوب لبنان مقابل ضمانات أمنية من الحزب بحماية شمال اسرائيل. وعرف باتفاق “قواعد اللعبة” وهو يثبت بما لا يقبل الشك بأنّ الحزب استبدل الاحتلال الاسرائيلي لجنوب لبنان باحتلال ايراني-سوري.
وهذا ما انقلب عليه الحزب في العام 2006، واستجلب القرار 1701 الذي عاد وانقلب عليه مجدّدًا. وما يحاول القيام به اليوم هو تكرار هذه الانقلابات التي لم تستجلب إلى لبنان واللبنانيين سوى الويلات. ويعود رعد ويؤكّد بأنّ “كل تصدٍ للعدو الإسرائيلي سينجز بمعادلة القوة التي يتمسك بها اللبنانيون وهي معادلة الجيش الذي يتناغم مع تطلعات الشعب ومع سواعد المقاومين.”
هذا التكرار الملطّف والمغلّف بحسن النيّة لم يعد ينطلي على أحد. هذه هي الثلاثيّة الساقطة التي دمّرت لبنان وقد أثبتت فشلها بالتجربة. ولاسيّما بعد مرحلة 8 تشرين الاوّل والاسناد الفاشل. وما استمراره باجترار هذه المعادلات الساقطة والممارسات الفاشلة باستيراد شحنات السلاح المهرّبة عبر الاراضي السوريّة حينًا وبالاستمرار في الاعتداء على قوات اليونيفيل حينًا آخر إلّا تثبيتًا لقصور الرؤية الاستراتيجيّة.
وهذه التقيّة الواضحة التي يمارسها رعد وفريقه السياسي بإظهاره نفسه ذلك الحريص على المصلحة اللبنانية أوّلًا، بغضّ النظر عن نتائج المفاوضات الأميركية – الايرانيّة أيضًا قد سقطت بالتجربة. فالانتظار المفاوضاتي ما عاد مجديًا. فما بين الـ2015 والـ2025 عشرة سنوات، يجب أن يدرك رعد أنّها قد انقضت. والودّ الذي يستجديه رعد وفريقه السياسي مع دولة الرئيس نوّاف سلام ليس ودًّا شخصيًّا إنّما ودًّا مع الرمزية التي يمثّلها الرئيس سلام؛ لذلك قرّر رعد ألّا يردّ على قول سلام إنّ “عصر تصدير الثورة الإيرانية قد انتهى، ولا سكوت عن أي سلاح خارج سلطة الدولة.”
فالديبلوماسيّة السياسيّة التي ينادي بها فخامة الرئيس العماد جوزف عون هي التي صنعت تحرير العام 2000. وما الأعمال العسكريّة التي أدّت إلى استشهاد لبنانيّين إيمانًا بالقضيّة اللبنانيّة إلّا محطّ احترام وتقدير منّا، لكن المؤسف كيف تمّ الاستثمار في هذه الدّماء الذكيّة إيديولوجيًّا للسيطرة على مقدّرات دولة بالكامل بهدف تغيير هويّتها الثقافيّة والكيانيّة والحضاريّة. هذا هو المشروع الذي تمّ إسقاطه. وهذا ما يجب أن يدركه هؤلاء جميعهم.
والخيانة الوطنيّة الوحيدة اليوم لا تكون بالتخلّي عن خيار المقاومة المزعومة، بل هي بالحفاظ على هذا النّهج الذي ادّى إلى تدمير البشر والحجر، والأخطر تدمير الفكر الذي تمّ أدلجته وإخراجه عمليًّا من تحت المظلّة الكيانيّة اللبنانيّة. وهذا ما سيتطلّب منّا جهودًا كثيرة، إن همُ أرادوا العودة. حتّى وهم الاحتضان العاطفي والتأييد الشعبي قد تمّ إسقاطه بالتوافق الاكراهي لقتل العمليّة الديمقراطيّة في مهدها كي لا يُسمَع الصوت الآخر.
نشأة أيّ مقاومة طبيعيّة مع كلّ شعب أبيّ يرفض الاحتلال في ظلّ غياب دولة أو حتّى مع وجود دولة لكنّها لا تريد أن تتحمّل مسؤوليّتها في الدّفاع عن أمنها وأمان شعبها. لكنّ اليوم المسألة تغيّرت. فالدّولة موجودة. وهذا ما لم يعتادوا عليه بعد. وهي قادرة أن تدافع عن شعبها. والدّفاع لا يكون دومًا بالقوّة. ولاسيّما مع عدوّ مثل إسرائيل لا يوجد معه أيّ توازن للقوى. جلّ ما تستطيع القوّة أن تحقّقه معه هو عمليّة إزعاج أمني ستنتهي حتمًا باتّفاق سياسي. تمامًا كما حصل مع اتّفاق “قواعد اللعبة”. لكن مع تغيّر المعادلات الدّوليّة والاقليميّة هذه المسألة لم تعد مجدية. فالحلّ الوحيد هو وفقًا لخارطة الطريق التي وضعها العماد عون.
لا يبدو أنّ النّعيم سيزورنا لأنّ القاسم لا زال يحاول اللعب على وتر انقسام اللبنانيين حول مشروعين اثنين لا ثالث بينهما: مشروع الدّولة، ومشروع اللادولة. نحن اخترنا الدّولة لأنّ نيّتنا في البقاء موجودة لنبقى جميعنا في كنفها. لكن من لا يريد البقاء فعليه أن يحسم أمره اليوم اليوم وليس غدًا، لأنّه بعد اليوم لن يكون هنالك أيّ غدٍ إلا للبنانيين الذين يحملون مشروع الدّولة؛ ولأنّ قصدنا شريف؛ اللبنانيّون هم وحدهم الغالبون.