بقلم كوثر شيا
في وطنٍ يعاني من الإفلاس المالي والانهيار المؤسساتي، لا تزال الطبقة الحاكمة تُصرّ على إنتاج مشاريع من دون رؤية، مشاريع تزيد الدين وتُعمّق الجرح البيئي، وتُكرّس منطق: “استثمار في الفشل”.
أحدث الفصول، مشروع استكمال جرّ مياه نهر الأولي وبحيرة القرعون إلى بيروت، بقرض جديد من البنك الدولي قيمته 250 مليون دولار، يُضاف إلى نحو 200 مليون دولار صُرفت مسبقاً على بنى تحتية من محطات تكرير ونفق نقل، من دون أي نتائج تُذكر. النتيجة: ديْن يتخطى 450 مليون دولار… والمياه؟ ملوثة وغير مضمونة.
القرعون… البركة المسمومة
لم تعد بحيرة القرعون سوى خزان ضخم للنفايات الصناعية والصرف الصحي الذي يُلقى يوميًا من مؤسسات ومصانع دون أي رادع. هذه المياه الملوثة نفسها، يُراد اليوم جرّها إلى منازل أهالي بيروت بحجّة “حلّ أزمة المياه”، وكأننا نعيش في دولة طبيعية يُمكن فيها الوثوق بالمؤسسات الرقابية والبيئية!
والمفارقة أن المشروع يريد إيصال 50 مليون متر مكعب فقط، لا يُضمن وصولها أصلاً، نظرًا لحاجة الجنوب والبقاع لها في الري.
مشروع جعيتا… الحل المهمل عمداً
في المقابل، هناك حلّ وطني نظيف وفعّال: نبع جعيتا. دراسة ألمانية أنجزت عام 2010 أثبتت أن بإمكان النبع تأمين 520 ألف متر مكعب من المياه النظيفة يوميًا، بتكلفة لا تتجاوز 30 مليون دولار فقط، ليستفيد منها نحو 2.6 مليون شخص.
لكن المشروع حُجب. لماذا؟ لأن لا “لحم” فيه للمتعهدين والسياسيين.
بسري… تاريخٌ مُدمّر باسم التقدّم
وهنا نعود إلى الجريمة الأكبر: مرج بسري، حيث جرى تدمير أكثر من عشرة آلاف شجرة، وتحويل مجرى النهر، ودفن معالم طبيعية وتاريخية لا تُقدّر بثمن.
مرج بسري لم يكن مجرد سهل، بل موطن وادي الحرير ومعبد الإلهة آشمون، حيث كانت تمر المياه بجانب المعبد، في تناغم طبيعي وثقافي عمره آلاف السنين. اليوم، صار المرج أرضاً مجروحة، انهار بيولوجيًا بفعل مشروع لم يُنجز، ولم يُحاسب أحد على آثاره البيئية والثقافية الكارثية.
مشاريع تجرّ الخراب… لا التنمية
مشاريع من هذا النوع لا تُجدي، لأنها تفتقر إلى الرؤية البيئية والبُعد الثقافي. بدلًا من إعادة توجيه الأنهار وتغيير مجاريها، لماذا لا تُدرس بجدية استخدام ينابيع الشاطئ والبحر؟ مياه البحر القريبة من الساحل، عند نقاط الفوّار والينابيع الجوفية، يمكن أن تشكّل مصدرًا مستدامًا عند الاستثمار في تقنيات حديثة، بكلفة أقل وأثر بيئي شبه معدوم.
أين القانون؟ أين الناس؟
جلسة تقييم الأثر البيئي التي دُعي إليها الناس خلال العدوان على غزة لم يحضرها أحد، لا لأن الناس غير معنية، بل لأن الجلسة كانت واجهة شكلية تُخالف القوانين التي تشترط مشاركة حقيقية قبل البدء بأي مشروع ذي أثر بيئي. فهل يُعقل تمرير مشروع بهذه الضخامة دون نقاش شعبي شفاف؟
البديل موجود… لكن الإرادة السياسية غائبة
أكررها: نبع جعيتا وحده، بتقنياته الحديثة، قادر على تأمين أكثر مما يعدنا به مشروع القرعون الملوث، ومن دون دين ولا ضرر بيئي ولا تدمير للمعالم الطبيعية.
فما الذي يمنع التنفيذ؟
نحن نعرف الجواب، في غياب المحاسبة، تتحوّل المشاريع إلى مساحات مشرّعة للنهب… باسم الإنماء.
رسالة للنواب: أوقفوا القرض فورًا
لا للقرض. لا لتكرار كارثة سد بسري بصيغة جديدة. لا لتكريس المديونية والفساد.
نحن نريد مشروعًا يؤمّن المياه النقية، يحترم البيئة، ويصون التراث. نريد دولة لا تبيع الطبيعة وتشتري التلوّث.
نحو رؤية جديدة لإدارة المياه
• حماية الينابيع والموارد الطبيعية دون التعدي على مجاريها.
• الاستثمار في مصادر مياه قريبة من الساحل (ينابيع البحر).
• وقف التصريف الصناعي في الأنهر.
• بناء استراتيجية وطنية لا مركزية لإدارة المياه.
• إعادة الاعتبار لمشاريع نظيفة كجعيتا.
الوقت حاسم. نريد عدالة بيئية، لا حلولًا فاسدة.
نريد شرايين حياة، لا قنوات تجرّ الموت إلى بيوتنا.