“مت فارغًا مما لديك من التكليف”…

بقلم خلود وتار قاسم

درست في صفوف مجموعة من الدكاترة المميزين خلال سنوات الماجستير في علم الاجتماع السياسي، وكنت دائمًا أتطلّع إلى صف البروفيسور سميح دغيم، رحمه الله. كان حاضرًا بعقله وروحه، يمتلك جوابًا مقنعًا لكل سؤال، وعلمًا عميقًا وواسعًا لا يُقاس. لم يكن مجرد أستاذ، بل كان أشبه بموسوعة تمشي على قدمين، ومِرآةً تعكس أبعادًا فكرية قلّما نجدها.

كنت أُفكّر وقتها، ليتنا نمتلك تكنولوجيا تزرع “رقاقة” في رأس العالم لنحفظ من خلالها هذا الكم الهائل من المعرفة، وننقلها إلى الأجيال القادمة دون أن تضيع. فقد علّم أجيالًا وأجيالًا على مدى ربما خمسين سنة أو أكثر، وكان لا يزال يحتفظ بداخله بزخمٍ معرفي وتحليلي مدهش. كيف لا نأسف على رحيل من يحمل كل هذه الثروة، دون أن نتمكّن من حفظها كاملة؟ إنها خسارة فادحة بحق الإنسانية.

ليتنا نستطيع أن نترفّع قليلًا عن ماديّات الحياة وضجيجها، ونلتفت إلى ما هو أعمق: الثروة الحقيقية التي أودعها الله فينا، ومنحنا إيّاها كتكليف لا كتشريف. تلك البذرة التي وضعها في كلّ منا، وطلب منّا أن نرعاها ونغذّيها علمًا، حبًا، وعطاءً، حتى تنمو فينا وتثمر في محيطنا.

فالثروة الحقيقية ليست في المال ولا في العقارات، بل في الإنسان. نعم، الإنسان هو رأس المال الأثمن، وكل استثمار لا يبدأ بالعلم والمعرفة وبناء العقول، هو استثمار ناقص. لنبنِ الإنسان أولًا، لنعلمّه ونلهمه ونرافقه في رحلة الوعي، فبه وحده تُبنى الأوطان وتنهض الحضارات. قبل أن نبني الحجر، فلنبنِ الفكر، وإلا أصبح العمران مجرد صدى لفراغٍ داخلي.

إنها ليست رفاهية فكر، بل مسؤولية وجود. التكليف ليس عبئًا، بل امتياز. هو بصمتنا التي نتركها في الوعي الجمعي، وصوتنا الذي يبقى حيًّا بعد أن نصمت.

فلنمُت فارغين… بعد أن نفرغ ما في عقولنا من علم، وما في قلوبنا من حب، وما في تجاربنا من دروس. فلنمُت بعد أن نسلّم أمانة الفكر، وننقش أسماءنا على جدران الذاكرة الإنسانية، لا بالرخام، بل بالأثر.

اخترنا لك