بقلم ماهر أبو شقرا
بدلاً من وجود عقد اجتماعي حقيقي، حيث تؤمّن الدولة الحماية والخدمات والعدالة للمجتمع مقابل خضوع الجميع لدولة القانون والمؤسسات، يسود في لبنان عقد اجتماعي ملتبس. هذا الالتباس يقوم على مبدأ تتبناه الأحزاب التقليدية التي تسعى لاحتكار الجماعات الطائفية، والتي تقول لجمهورها: “نؤمّن لكم الحماية والخدمات مقابل ولائكم السياسي الكامل وخضوعكم لنا”.
تستغلّ تلك الأحزاب الهواجس الوجودية للطوائف اللبنانية، في بلد ومنطقة لها تاريخ طويل من الصراعات والنزاعات الطائفية والتمرّد ضدّ محاولات الهيمنة. الثنائي الشيعي يستثمر هاجس التهميش والخطر الإسرائيلي والإسلام السياسي السنّي في خدمة مشروعه السياسي. الاشتراكي، وباقي القوى الطائفية الدرزية، يحاولون تعزيز هيمنتهم على القرار الدرزي من خلال اللعب على أوتار هاجس الوجود والبقاء، وهو هاجس متأصّل في الوجدان الجمعي لدروز لبنان والمنطقة. الأحزاب الطائفية السنّية تقوم بترويج فكرة الاستهداف السياسي والعسكري والثقافي من قِبل الغرب والفرس للعرب السنّة في لبنان، ومحاولة فصلهم عن محيطهم العربي السنّي. أمّا الأحزاب الطائفية المسيحية، فتستخدم هاجس الخوف من العودة إلى الذمية والعيش كمواطنين درجة ثانية في بلد ومنطقة ذات غالبية إسلامية، وهكذا دواليك.
هذا الواقع يضعف الدولة. فالدولة، من خلال الأحزاب التقليدية الطائفية، تمتحن المتقدمين للوظيفة العامة بولائهم لتلك الأحزاب بدلاً من أن تمتحن كفاءتهم. فيصل للوظيفة العامة عدد كبير من غير الأكفاء، والذين يدينون بالطاعة الكاملة والتبعية الكاملة للأحزاب التقليدية الطائفية، يسيطرون على مؤسسات الدولة التي تضمّ قلّة من الأكفاء المتحرّرين من سيطرة الأحزاب التقليدية. فلا عجب إذن في أن الدولة ضعيفة في لبنان، ولا عجب في أن المجتمع اللبناني لا يثق بها أو يطمئن لها. وبذلك تتكوّن طبقة من المستفيدين الذين تحشو الأحزاب التقليدية الطائفية مؤسسات الدولة بهم. أولئك المستفيدون، وهم يدركون افتقارهم للكفاءة، يدينون ببقائهم في وظيفتهم لتلك الأحزاب، فيصبحون مستعدين للدفاع بشراسة ضد أي إصلاح أو إعادة هيكلة تجعل الكفاءة معياراً للتوظيف. الأحزاب الطائفية لا يمكن أن تكون إصلاحية، وهي مرادفة لمجتمع يسير نحو الانحطاط. فإما السير في ركب التقدّم والتطوّر، وإما المضيّ في مسار الأحزاب التقليدية الطائفية.
أخيراً، إنّ هواجس الطوائف ليست أوهاماً كما يحاول بعض اليسار الأحفوري تصويرها، بل هي غالباً حقيقية ولا يمكن القفز فوقها أو إنكارها. لكن المشكلة تكمن في استغلال الأحزاب الطائفية لتلك الهواجس دون تقديم حلول جدية.
إنّ الحلّ الوحيد هو الحلّ الذي يجيب على هواجس الجماعات الطائفية، ويحافظ على وحدة المجتمع اللبناني، ويقوم بتقويض الشبكة الزبائنية والمحسوبية التي تديرها الأحزاب التقليدية الطائفية، في آن معاً. ينبغي تحويل لبنان إلى جمهورية لامركزية إجتماعية. جمهورية ذات عقيدة علمانية تعدّدية وإدارة لامركزية تعطي المناطق صلاحيات واسعة لإدارة شؤونها المحلية. جمهورية تديرها دولة محايدة تجاه جميع الديانات؛ دولة قادرة على إدارة التنوّع وتقديم الحماية والخدمات للمجتمع اللبناني بأكمله.
لتحقيق هذا الهدف ينبغي الإطاحة بهيمنة الأحزاب التقليدية الطائفية وتحرير الدولة من سيطرتها. إنّ العمل على هذا الهدف المرحلي لا يحتمل التأخير.